صرخ كأم ثكلى فقدت وحيدها، صرخة أيقظت الأحياء من نومهم بعد منتصف الليل أقضّت مضجع الأموات فى قبورهم , لعلها المرة الأولى والأخيرة التى أسمع فيها صراخ كهل على مشارف شيخوخته , أسرعت مع كثيرين لنجدته اعتقادا بأن مكروها أصابه , مرض مفاجئ أو لدغة هائم فى الظلام .
رغم قصر المسافة بيننا وبين بيته إلاّ أن عويله باعد بيننا وبينه كبُعد المشرق والمغرب فكلما اقتربنا أصمّنا بكاؤه فشقّت علينا المسافة , أخيرا اقتربنا وتجرأ أحدنا بعد تردد وقرع باب بيته ونحن خلفه ترتجف أفئدتنا بتأثير غموض الموقف .
فتح فرأينا شبحا لرجل عرفناه فترة ثم اختفى واعتزل الناس , شاعت حوله أقاويل تقترب من الأساطير عن ثروة جمعها بعرق الجبين , وزيجة من شابة تصغره قرابة خمسين عاما , تفوق نسوة وفتيات الحى جمالا ورقة , فخاف الناس على ثروته وخشى على نصفه الآخر من عيونهم.
عاش حياته يقفز برشاقة بين رغبات الأقارب والجيران من حوله ومطامعهم فى ثروته , فلم يظفر أى منهم بما يبلّ ريقه من ثروة تسد عين الشمس , كما يأس اللصوص بعد عشرات المحاولات فى تسوّر بيته فعفّوا عنه وزهدوا فى ماله بخيبة أمل أحاطت بهم إحاطة السوار بالمعصم فاعتزل أغلبهم وتاب نفر منهم غير قليل .
كلها أراجيف قيلت حوله وعنه , حتى أضحت غيمة كبيرة تظللّ بيته وتلفّ صاحبه بهالة من الرهبة منعت الغرباء وقبلهم نحن من الاقتراب منه .
حتى ليلة سمعنا صراخه وتناهى إلينا أنينه فأسرعنا رغبة فى المعرفة وأمنية كبيرة سرت بأبداننا بزوال ثروته أو ذهاب عقله .
خرج إلينا جاحظ العينين عارى الصدر حافى القدمين يحمل بيديه عروسة كبيرة من قماش , تتدلى رأسها على صدرها نتيجة محاولة خائبة من أحدهم لانتزاعها من مكانها , كان يحملها بيده اليسرى , ويمناه تنهش فروة رأسه ويسيل أنفه , ينبعث من صدره أنين حزين , سألناه مالك؟ ماذا حدث؟
دون إجابة ألقى إلينا بعروسته المصنوعة من القماش , التى تتدلى رأسها على صدرها إثر محاولة خائبة لانتزاعها , ثم دخل وصفق الباب فى وجوهنا .