فى ساعة متأخرة ليلا عائدا من عملى والذى لم يكن ليتخط السادسة مساء تماما ولكن كانت ظروف خارجة عن إرادتى هذا اليوم، فأنا عادة استقل عدة سيارات ركوب قبل الوصول إلى نقطة النهاية بانتظار أى سيارة عائدة إلى بلدتى التى تبعد عن الطريق السريع خمسة اميال تقريبا فى جو شتوى بارد رياح تاتى من كل تجاه تحرك الأشجار إلى تزداد حركة بفعل اندفاع الهواء ايضا من السيارات السريعة التى تتسارع وراء بعضها وكانها تهرب من خطر غامض . الكل يسابق الوقت للوصول إلى مبتغاه قبل هطول المطر حيث ستقل السرعة اجباريا لاحتمال انزلاق السيارات و وقوع الحوادث التى تقع بسبب الأمطار وعندما وقفت لوحدى وجدت سيارة ركاب يستقلها اربعة السائق ومعه ثلاثة من الرجال فلاح بجلباب يجلس خلف السائق مباشرة وإثنان من الرجال احدهم رجل مسن يرتدى بدلة منمقة كاملة ويضع عطرا نفاذا وقورا والرجل الآخر شابا راجعا من التجنيد يرتدى ملابس عسكرية وحاملا شنطة صغيرة تكاد تتقطع من ثقلها يبدو أنه عائدا لتوه من الوحدة العسكرية التى يخدم بها.
ركبت السيارة فى حركة خفيفة فالسيارات فى هذا الوقت لا تنتظر كثيرا حيث الجو الملبد بالغيوم فيستحق الشكر فقط لأنه توقف فى الأساس لإنقاذى وبالتالى ركبت بخفة وسرعة وانطلقت السيارة فى ظلام دامس وسط انقطاع الكهرباء بالأعمدة وعند افتراق طرق حيث يوجد طريق لليسار يوصل إلى بلد أخرى ومزرعة على اليمين ووجود مطب يجبر الجميع على التهدئة وجدنا جميعا مشهدا مرعبا ومزعجا ومخيفا وجدنا سيدة وحيدة تجرى مهرولة على جانب الطريق ترتدى جلباب اسود وتحته بنطلون وترفع الجلباب للجرى بأقصى سرعة ويجرى خلفها رجل قوى البنيان يرتدى جاكت جلد اسود لحيته قصيرة وبدأ يقترب منها محاولا الإمساك بها وهى تهرب منه ويقع على الأرض وتسبقه مرة أخرى فهنا انتبه السائق وسط صمت ودهشة الثلاثة وانا منهم فى هذا الموقف السائق يسأل : هنسيبها يا جماعة معقول ؟ والجميع لا يرد.
السائق يسأل مرة أخرى : أظن احنا رجالة نقف نشوف فيه ايه عيب علينا نتركها وحيدة ووقف السائق فاندفعت السيدة التى ظهر على وجهها علامات الهلع والبكاء وقد انكشف شعرها بسبب الهرولة وبمجرد وقوفنا صعدت إلى السيارة و اغلقت الباب ولم تمض ثوان معدودة ونحن نسألها عن هذا الرجل ولماذا يهرول وراءها وهى كأنها خرساء تبكى وعيناها زائغتان يمينا ويسارا وتصرخ لا لا لا والدموع تنسال من عينيها وفى حالة انهيار تام .
جاء الرجل وكلنا فى حالة ترقب والسائق قد امسك بذراع حديدى متأهبا ضد الرجل الذى يبدو أنه سفاح يريد اغتصابها وقال للجميع : ايه يا فاتن موش هترجعى معايا وينظر إلينا ويوجه كلامه لنا.
قائلا : انا جوزها يا جماعة جوزها اقسم بالله
يتكلم الرجل الفلاح : جوزها ازاى عيب يا حاج الست بتهرب منك وبتصرخ وبتعيط هنسيبها ازاى ونمشى لازم نعمل لها اى حاجة ونقف جنبها قبل ما تموتها
السائق : وبتجرى وراها ليه وبتهرب منك ليه ورينى البطاقة ولو جوزها هنسيبها معاك ولو موش جوزها فيه كلام تانى ولوح بالذراع الحديدى وهنا سكت الرجل وقال اتكلمى با فاتن اتكلمى هتودينا فى داهية وينظر بعيناه لفاتن نظرات حادة.
هنا تدخل الرجل ذو البدلة الانيقة بكل هدوء : حتى لو جوزها يا إبنى وبتهرب منك بالشكل ده يبقى انت بتعاملها وحش وهى خايفة منك ولا يجوز انك تعاملها بالشكل ده احنا هنوصلها لحد بيتها وليها اهل روح استلمها منهم اطلع يا اسطى واغلق الباب فى وجه الرجل الذى إدعى انه زوجها وهو يتكلم بصوت عال قائلا
الرجل المتهجم : طب انا هعرف انتقم منك ازاى يا فاتن وهترجعى فاهمة يعنى ايه هترجعى
وانطلقت السيارة والكل يحاول تهدئتها والشاب المجند لم يتكلم وعلى وجهه علامات الدهشة أشد ولمعت عيناه وتحدث لنفسه انها فاتن بنت بلده شديدة الجمال التى مات حبيبها وخطيبها فى عرض البحر محاولا العبور لايطاليا ولم يجد والدها سوى أن يزوجها رغما عنها إلى أحد أصدقاء خطيبها الذى دفع له ديونه ولم يكن لديه شقة سوى غرفة فى مزرعة على الطريق السريع يوجد بها سرير وثلاجة صغيرة وبوتاجاز شعلتان فقط وعندما انطلقت السيارة بدأ فى ذهنى بعض التوجس والخوف فقد يبلغ زوجها مثلا اننا قمنا باختطافها وقلت للرجل ذى البدلة الانيقة عن هذا التوجس قال لى لا تقلق كلنا هنا شهود على الواقعة وهى ايضا ستشهد معنا سأقوم بتوصيلها إلى ابيها بنفسى ومعى السائق وحاولنا اخراج الكلام من فاتن ولكن لا سبيل فهى منهارة تماما ولا تريد الحديث ولا حتى عنوانها
هنا تكلم ابن عمها من شدة نظراتها اليه واطمئنانها لنا فقال لنا : انا ابن عمها يا جماعة هنا صرخ فيه السائق قائلا بنت عمك وساكت من ساعتها انت راجل ازاى ولم تحاول حتى التحدث مع زوجها
المجند : انا عارف جوزها كان ممكن يقتلنا كلنا وحصلت بينى وبينه مشاكل كتير وخطيبها السابق اخويا اللى مات فى البحر وهو بيحاول يأمن مستقبله ويكمل تكاليف زواجه عليها صح يا فاتن
هنا فقط تكلمت فاتن باكية والدموع تملأ عينيها : ياريتنى كنت مت معاه ياريتنى وتكمل البكاء.
الرجل ذو البدلة الانيقة : خلاص كدة كملت الحكاية هتتعب معانا يا اسطى شوية عشان نوصل فاتن وابن عمها للبلد وهنوصلها معاك لابوها وأسلمها بنفسى وبعد كدة ليس لنا دخل فى الموضوع ونبقى عملنا إلى علينا
السائق : عندك حق يا استاذ دى حكاية ولا فى الافلام الدنيا دى مليانة بلاوى وينطلق السائق مكملا الطريق
هنا قد وصلت للنقطة التى من المفترض أن اترك السيارة و عندما طلبت من السائق التوقف للنزول قال الرجل الانيق ذو البدلة بكل ثبات وهدوء
الرجل ذو البدلة : ده كارت فيه رقم تليفونى عشان لو عايز تعرف بقية حكاية فاتن هوانت اسمك ايه
رددت عليه موش مهم يا أفندم المهم أن فاتن ترجع و عموما انا اسمى رائد
هنا صاح السائق لما انت رائد ساكت من الصبح ليه كنت إنقذنا يا محترم من المجرم جوزها ده وإبتسم الجميع بما فيهم فاتن والمجند ابن عمها والفلاح وانا واخدت الكارت المكتوب عليه اسم الرجل الانيق الاستاذ اسماعيل الذى عرفت أنه محامى بالجنايات وعرفت سر ثباته الانفعالى الذى لولا وجوده لوقعنا فى مشكلة كبيرة فقد كان له دور كبير فى المشكلة وتعجبت من هذه الصدفة التى جاءت بابن عمها فى نفس السيارة ونزلت وفى طريقى إلى المنزل مترجلا أكلم نفسى وقارنت بين حال فاتن وحال ابنة عمى الفتاة المدللة التى قامت بفسخ الخطوبة على خطيبها بسبب أن مساحة غرفة الاستقبال ضيقة و موقع الشقة فى أطراف المدينة لا يناسبها رغم محاولات العقلاء فى العائلتين لم الشمل لكن الفتاة المدللة رفضت وعاشت فى وهم مواقع التواصل الاجتماعى حتى وصلت الآن سن الاربعين ولم تتزوج وهنا قلت فى بالى ربنا يحل قضيتك يا فاتن ويرحمك من العذاب اللى انتى عايشاه ومازال كارت المحامى معى حتى الآن و لكن بعد انتهاء هذا الموقف لم أحاول الإتصال به وزيارته كما وعدته لانشغالى ببعض الأمور ولكنه يوم لا ينسى فى حياتى