القومية هوية ولا شىء يوحد الشعوب قدر الهوية، آلاف الحروب اندلعت، وامبراطوريات اتحدت وأخرى تفتت بسببها.
بعد صلح ويستفاليا بين الأمم الأوروبية المتحاربة بالقرن 17، تصدَر مفهوم الهوية القومية كافة كتب السياسة والقانون شرقاً وغريباً وأضحت الدولة القومية أحدث موضة للدولة فى العصر الحديث الذى بدأ بالثورة الصناعية بأوروبا منذ نحو خمسة قرون.
وبالنصف الثانى من القرن التاسع عشر، وبعد حروب ضارية خاضتها فرنسا تحت راية نابليون بونابارت، نضجت الدولة القومية مع القيم التى أعلتها الثورة الفرنسية كالحرية والمساواة وحقوق الإنسان لتتصاعد حدة لهجة المطالبة ببناء دولة قومية بل باتت مسألة حساسة تهيج مشاعر الشعوب بأوروبا وكان معيار اللغة الأهم على الإطلاق ولا يزال.
ففى جنوب أوروبا شنت إيطاليا حروباً طويلة ضد النمسا وفرنسا لتحقيق الوحدة (القومية) بين أبنائها الناطقين بالإيطالية بفضل قائد الأمة كافور عام 1861 رغم تأخر ضم روما بسبب الفاتيكان الناقم على الوحدة، وبالتوازى لم يهدر أبناء بروسيا وقتاً فى دعم أوتو فون بسمارك مهندس الوحدة الألمانية فى توحيد كل المناطق الناطقة بالألمانية مثل السوديت والشلزويج والإلزاس واللورين لتشييد أول دولة ألمانية حديثة عام 1871، بل تذرعت برلين فيما بعد باللغة الألمانية للتوسع فى الأراضى المتاخمة التشيكية، والبولندية، والنمساوية، والفرنسية لضمها إلى (ألمانيا الأم) وكان ذلك سبباً مباشراً لاندلاع الحرب العالمية الأولى والثانية.
وطن عربى لشعوب عربية وأخرى غير عربية!
ولأن للأفكار أجنحة، حلقت الدولة القومية نحو الشرق بأجنحة عفوية لتتسابق الأمم التى سميت فيما بعد بـ (الدول العربية) لتأسيس دول قومية، وكانت الدوافع كافة متوفرة أنذلك للتخلص من العثمانيين، فبعد قرون من الاستبداد، ولد جيل جديد فى الشرق جامح نحو التحرر منهم، روح وِلدَت بالشرق فى نهاية القرن التاسع عشر ويتصدر محمد عبدو قائمة روادها.
ليس وقتاً متأخراً مقارنة بأمم أوروبا، لكن الخطأ الكبير الذى وقع ولا تزال الدول العربية فى إشكالية خطيرة بسببه إلى الأن تمثل فى نسخ التجربة الأوروبية بحذافيرها دون مراعاة معايير كثيرة مثل الاختلافات الإثنية والطائفية الجوهرية الحاضرة فى الشرق العربى والتى خلقت تهديد لفكرة الدولة القومية بثيابها الغربية.
نعم اللغة الألمانية وحدت أبناءها، والعربية لم تنجح.. لكن لماذا؟
ففى أوروبا، نجحت الدولة القومية لأن دور الدين قد تم حسمه فعلياً منذ قرون سبقت ميلاد الدولة القومية بتحييده عن الحياة السياسية والاجتماعية فيما يسمى بـ (العلمانية) التى عاملت كافة أبناء الدولة كـ "أسنان المشط" ولم يعد الانتماء الدينى حاضراً عند توزيع الثروة والمناصب وسن التشريعات والقوانين.
اليوم.. هناك دولاً عربية قائمة فعلياً ومعترف بها دولياً لكنها مهددة بالانشطار بسبب حضور الانتماءات الإثنية والطائفية داخل كل دولة مثل العراق وليبيا.
وبعد أكثر من قرن من ميلاد (القومية العربية).. أتساءل هل ستظل النسخة الحالية للقومية العربية على صياغتها لقرن آخر أم ستنجح شعوب "الوطن العربى" فى بلورة صيغة جديدة لهويتها القومية تراعى المعطيات الدولية والداخلية الحالية التى تؤكد وجود أمم غير عربية الهوية تعيش تحت علم عربى؟