سنوات انقطعت فيها عن زيارة الحى القديم، ربما ثلاثين عاما أو تقل قليلا، تغيّرت فيها أشياء كثيرة، لكن ظلت ذكراه حاضرة بغموضه وتفرّده تستعص على النسيان، قادتنى ذكريات الماضى حتى وصلت لناصية الشارع الكبير، هناك بجوار بيت مهجور الأهل والأصحاب لا يزال يكابر السقوط فى عناد . بحثت عنه فلم أجده، هل مات؟ أجرى عليه ما يجرى على الأحياء؟ طغى صوته على صخب المكان ثم طفت صورته فأزاحت ما حولها، فكأن الأمس قد اتصل بحاضرى.
يهلّ "عم عبد "فى أيام الصيف القائظ، يدفع عربته الخشبية " الكارو " أمامه أحيانا أو يجرها خلفه متأبطا إياها برباط غليظ حول كتفه يضع عليها نوع ردىء من الفاكهة " الجميز" ينادى بضاعته بصوت عذب وكأنه عاشق يتغنّى بمعشوقته .
لم يأبه بحرارة الصيف رغم سيره دائما حافى القدمين مرتديا معطفا ثقيلا كالح اللون يعتمر عمامة كبيرة يُحكّم لفّها حول رأسه كأنما يخشى أن يفقد ما تبقى من عقله وحكمته.
على أن غرابة مظهره ليست دون غرابة تصرفه، فلم أره يبيع أحداً من بضاعته، كان ينفر من الزبائن ويمنعهم الاقتراب، يتخذ من رأس الشارع مقاما حتى يختفى مع زوال الشمس .
عم "عبد" كما كان الناس ينادونه، تجاوز الكهولة بزمن، لحيته نابتة خشنة يضرب البياض جنباتها تاركا مساحة سوداء صغيرة أسفل ذقته، بشرته تميل للسمار ربما بحكم مهنته فى حر الصيف، غليظ اليد مفلطحة لدرجة تلفت النظر، له عينين صغيرين تنطمران فى محجريها, تبرقان بشدة، كأنما ينظر إليك من بعيد وقد جاهدت فى تحديد لون عينيه كثيرا وفشلت .
عربته الخشبية هى كل رأسماله، وملاذه، إذ يتخذها مبيتا بسطحها صيفا، يختفى فى نومه أسفلها شتاءا متكوّما حول نفسه، يمارس حرفتين، كبائع جوال لبضاعة لا يشتريها احد، ثم وهى المهنة الأكثر أهمية لدينا، مسحّراتى فى شهر رمضان. مهنة لم يتقاضى عنها أجرا أبدًا.
وقد سألت الأوّلين من القدامى عنه، من أين جاء؟ هل له أهل؟ أين هم؟ جميعهم ذكروا حقيقة واحدة أنهم وعوا على الدنيا و"عم عبد" مقيما على ناصية الشارع بعربته الخشبية، بعضهم تذكّر بحسرة أيام ولّت بغير رجعة عن لهوهم بعربته أو مغافلة " عم عبد " وسرقة بضعة ثمرات من " الجميز " أكدت النسوة أن شهر الصيام لم يكن يحلو إلاّ بصوته المنغّم .
المرة الأخيرة التى رأيته، كنت أغادر لمستقبل مجهول، أوليته ظهرى مفعما بأمل يتراقص أمام عينى، ملتحفا بوهم كبير، بينما كان "عم عبد" يدفع عربته الخشبية أمامه، وقد ارتسمت على وجهه للمرة الأولى مرارة لا تخطئها العين .