كثيرًا ما نشعر أننا فقدنا أنفسنا ، ولا نجدها بين خلجاتنا، أو بين ثنايا ضلوعنا، وكأنها شخص آخر انفصل عنا، ولا نعرفه، وربما لم نلتقيه من قبل ، فأسوا ما في النفس أن تهرب من صاحبها وتغادره، فيشعر أنه قد تحول إلى امرئٍ آخر لا يُعرف منه إلا شكله الخارجي فقط، والذي غالبًا ما يتغير؛ لأن الملامح لها قدرة فائقة على التأثر بالنفس والروح، والسؤال هو، ما الذي يدفع النفس أن تغيب عن صاحبها وتتركه ؟! السبب باختصار أن الإنسان حينما يتحرر من أحلامه ومبادئه، ويسعى للتكيف مع مجتمع غريب عنه محاولاً الاندماج مع طقوسه الغريبة عنه، راغبًا في الامتزاج بكل ألوانه والتجانس معها، حتى لو كان بعيدًا كل البعد عنه، ولا يمت له بصلة، فهنا تشعر نفسه المتمثلة في وجدانه وكيانه وسلوكه بالرغبة في الهروب والابتعاد عنه ؛ لأنه يُصبح غريبًا عنها نقيضًا لها، فإذا أردت أن تبحث عن ذاتك، فابحث عنها بداخلك، في ثنايا ضمير ، بين طيات مبادئك .
أتساءل دائمًا ، لماذا لدينا القدرة على تغيير جلودنا بسرعة رهيبة ، فكلما واتتنا الفرصة للتغيير لا نتوانى عن الإقدام عليه دون تفكير، فكم من مرة نُغير أسلوبنا في الحوار، ظنًا منا أن هذا هو التمدين، فبِتنا نتحدث بلغة غريبة علينا، ونستخدم مصطلحات منفرة، لا ترتقي إلى الذوق، وأيضًا هرولتنا نحو عمليات التجميل، والتي بها بدلنا ملامحنا بدعوى "الموضة"، وكأن ما خلقه الله لا يتماشى مع طبيعة حياتنا، وكذلك أحلامنا باتت باهتة، فهي أحلام روتينية، ليس فيها إبداع أو ابتكار، أليس في كل هذا أسباب لهروب النفس عن صاحبها، فهي أصبحت لا تعرفه، حتى ملامحه أضحت غريبة عليها .
فالنفس البشرية رغم أنها جزء لا يتجزأ عن صاحبها، إلا أنها دائمًا تلعب دور "الطيف" في حياته، فهي تحاوره وتنقده وتؤمِّن كثيرًا على أفكاره، وأيضًا تهرب منه حينما يبتعد عنها، وينفر منها ويسعى إلى تغييرها، فإذا أردنا أن نتناغم مع أنفسنا، علينا أن نرضى بها ونحبها كما هي، وإذا سعينا إلى تقويمها فلابد أن نغيرها إلى الأفضل ، فلو امتلكنا القدر اللازم من الثقة في النفس ما كنا تبدلنا مع كل موسم حسب الطراز السائد فيه، ولو ركزنا قليلاً، سنكتشف أن أسوأ غربة يعاني منها الإنسان هي غُربته عن نفسه ، فالغُربة في حد ذاتها قاسية، سواءً كانت غُربة الوطن أو الأصحاب والأحباب، فما بالنا بغُربة النفس، ما أصعبها حينما تغادرنا وتتركنا تائهين لا نعرف من نكون؟ وإلى أين نحن ذاهبين؟ فهذه هي قمة غُربة النفس.