قال الدكتور شوقي علَّام -مفتي الجمهورية، رئيس الأمانة العامة لدُور وهيئات الإفتاء في العالم-: إن دار الإفتاء المصرية تعاملت بذكاء وحكمة مع قضايا العصر والمسائل المستجدة، باتِّباعها مبدأ الاختيار الفقهي بعدم الاقتصار على مذهب واحد من المذاهب الفقهية الأربعة، بل استثمرت واستفادت من مذاهب المجتهدين العظام؛ بما يحقق مصلحة العباد والبلاد، ما دام الأمر لم يكن مخالفًا للشرع الشريف.
أضاف المفتي في لقائه الأسبوعي في برنامج نظرة، مع الإعلامي حمدي رزق على فضائية صدى البلد، أن التعامل مع التراث ينبغي أن يكون بالتعامل المنهجي المتكامل الذي نبعد فيه عن القبول المطلق، وكذلك الرفض المطلق أو الانتقاء العشوائي، فالتعامل التكاملي في جوانبه الفكرية والنصية يقودنا إلى التعامل العادل بعيدًا عن نزع التراث عن زمنه وظرفه التاريخي، وقياسه بمفاهيم عصرنا ومصطلحاته.
وأكد المفتي على أن مدرسة القبول المطلق للتراث تجعله بظرفه التاريخي ونسبيته حاكمًا على عصر غير عصره، وأناس غير أناسه؛ مما يترتب عليه كثير من المشكلات والتناقضات، وكذلك مدرسة الرفض المطلق أو مدرسة الانتقاء العشوائي تجعل التراث عائقًا لإحياء مآثر السلف الصالح وفضائلهم وجهدهم فضلًا عن إهمال قواعدهم ومعاييرهم المنضبطة.
وأوضح أن المنهجية الإفتائية في دار الإفتاء المصرية تقوم على مدرسة وسطية وهي التكامل بين الأصالة والمعاصرة وبين الماضي والحاضر، وعلى قاعدة الامتنان والاحترام للأسلاف الكرام، مع عدم تقديس أقوالهم، أو العمل بها ما دام قد تجاوزها الزمان ولم يؤدِّ العمل بها إلى تحقيق مقاصد الشرع الشريف، ومصالح المكلَّفين.
وقال مفتي الجمهورية إن هذه المدرسة الوسطية تقوم على الاستناد والاعتماد على آراء أهل الخبرة في التخصصات الأخرى غير الدينية من طب واقتصاد وغيرها، ولعل من أمثلة ذلك استناد دار الإفتاء المصرية مؤخرًا في فتواها عن حكم بخاخة الربو للصائم على كلام أهل الطب في ذلك.
وأشار المفتي إلى أن هذه المدرسة الوسطية تعد امتدادًا لمسيرة النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة الكرام مرورًا بكبار الأئمة الأعلام داخل مصر وخارجها أمثال الليث بن سعد وابن رشد وغيرهما.
وأوضح أن الإمام الليث بن سعد -رحمه الله- يُعد من أبرز فقهاء مصر على مر العصور، ويلقِّبه المحققون بفقيه مصر، وهو يستحق هذا اللقب عالي القدر لغزارة علمه، وقد عاش في القرن الثاني الهجري وعاصر الإمام مالكًا رضي الله عنه. وقيل عنه إنه فاق في علمه وفقهه الإمام مالك بن أنس، غير أن تلامذته لم يقوموا بتدوين علمه وفقهه ونشره في الآفاق، مثلما فعل تلامذة الإمام مالك، وكان الإمام الشافعي يقول: "الليث أَفقه من مالك إِلا أَنَّ أَصحابه لم يقوموا بِه".
وأضاف المفتي: إننا نؤيد ونبارك الدعوات المطالبة بقيام الجامعات الكبرى ومراكز الأبحاث المتخصصة بتجميع فقه وآراء ومرويات الإمام الليث بن سعد من بطون الكتب والأصول، فهو مصدر فخر واعتزاز للمصريين؛ نظرًا لسماحته وفقهه، فضلًا عن قربه من العهد النبوي وعهد الصحابة الكرام.
وأشار إلى أن الأسلاف قد تركوا لنا ثروة فقهية لا مثيل لها في تاريخ الأمم على مرِّ العصور، بيد أنَّ كثيرًا من المسائل التي تقع في دنيا الناس اليوم تحتاج إلى اجتهادٍ جديدٍ يؤدي دوره في تيسير الالتزام بالشريعة الإسلامية في واقع الناس، ولا يكون ذلك إلا باستصحاب قواعد الاجتهاد الأصيلة، ومن أهمها معرفةُ كيفية تنزيل النَّصِّ على الواقع، بحيث يلائم الفقيه بين حاجات الناس، وبين الرأي الفقهي التشريعي.
وأكد المفتي على جواز الأخذ بأيِّ قول مُعتبر من أقوال أهل العلم بما يحقِّق المصلحةَ ووَفْقًا للاختيار الفقهي المنضبط، وهو تمامًا ما حدث في الأخذ بمسألة "الوصية الواجبة" في مصرَ منذ أكثر من 50 سنة، وهي تجربة فريدة بلا شك، وكذلك الحكم الشرعي في الخلع.
واختتم حواره بالتأكيد على أن هناك جملة من المعاني تؤكد عدمَ جمود الفقهاء في المجالات العملية خاصة في الفتوى على رأي واحد، بل راعوا الرأي الآخر المخالف ولم ينكروه ولم ينسبوه إلى الخطأ والقصور، بل نظروا في كيفية الاستفادة منه باعتباره يمثل فسحة وسعة على المكلف، ما دام قد صدر عن مجتهد من أهل الاختصاص، وها هو الإمام القرافي يدعو للإفتاء بعرف المستفتي فيقول: "وعلى هذا تراعى الفتاوى على طول الأيام؛ فمهما تجدد في العرف اعتبره، ومهما سقط أسْقِطه ولا تجمد على المسطور في الكتب طول عمرك؛ بل إذا جاءك رجل من غير أهل إقليمك يستفتيك لا تُجْرِه على عرف بلدك واسأله عن عرف بلده، وأَجِرِه عليه وأفته به دون عرف بلدك والمقرر في كتبك، فهذا هو الحق الواضح والجمود على المنقولات أبدًا ضلالٌ في الدين وجهلٌ بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين".