عبر تاريخ السينما المصرية والذي يتعدى الـ 100 عام، تطورت النظرة إلى المعالجة الدرامية لمحتواها المقدم من جانب النقاد والجمهور، فمما لاشك فيه أن السينما إنعكاس للمجتمع الذي توجد به، وبالتأكيد يؤثر الإطار المجتمعي بقوانيه الحاكمة له ومكنونه الديني والأخلاقي على المادة الفنية المقدمة بالسينما، فضلا عن الأسلوب الذي تقدم به، فجرأة الجرعة المقدمة بالفيلم السينمائي يتغير حجمها وفقا لما يتاح بالمجتمع من سقف عالي لتحرر عقل الحاكم والمحكوم داخله، فبالنظر للسينما الإيرانية مثلا مقارنة بالسينما المصرية، سنجد أن الأخيرة تفوقت عليها من حيث درجة تحرر مواضيعها وأسلوب عرضها على السواء، فيما تتفوق السينما التونسية والمغربية بشكل كبير على نظيرتها المصرية في هذا الجانب.
ما يهمنا هنا ليس قياس حجم التحرر بقدر معرفة مدى نجاح سينما مصر والتي تعتبر السينما الأهم في المنطقة العربية في إيجاد توازن حقيقي بين ما يلزم عرضه من مشاهد "جريئة" على المشاهد لفهم الرسالة الدرامية وبين ما يمكن الإستغناء عنه حفاظا على عدم جرح المعايير الأخلاقية داخل مجتمع شرقي يحكمه إطار أخلاقي معين، والإجابة هنا نحن لسنا طرفا فيها بأي حال من الأحوال وإنما صناع السينما ونقادها هم الأجدر بالحديث عنها.
مخرجين كبار إعتمدوا على الإيحاء السلس لإيصال المعنى
وتزخر السينما المصرية عبر تاريخها الطويل بعدد من المخرجين الكبار الذين نقلوا واقع المجتمع المصري المعاصر بحرفية عاليه وتجسيد درامي لهذا الواقع بما يحتويه من مشاهد قتل وعنف وغرام وجنس، لكن الفيصل في تناولهم كان هو إحترام عقلية المشاهد بالعرض الدرامي السلس البعيد عن "فجاجة" الوصف الصريح، وعند حديثنا عن جرأة النقل من الواقع فلا يمكن إختصار تلك الجرأة في جزئية الجنس، فالجرأة السياسية والدينية لها ما لها من مكانة كبيرة في ذهن كل مخرج وكاتب يسعى لإطلاق صرخة فكرية معينة يحاول بثها في جسد المجتمع الساكن، فمن خلال سينما صلاح أبو سيف إستطعنا أن نشاهد فيلم كامل قوامه العلاقة الجنسية التي تسعى إمرأة إيقاع طالب جامعي بها في فيلم "شباب إمرأة"، دون أن يجرحنا سيف طيلة عرض الفيلم بمشهد فج يرهق عين المشاهد العربي في شتى بقاع المنطقة، ليكتفي بالإحاء بالفعل وإيصال المعنى بطريقة سلسة إنسانية راقية.
ومن خلال سينما عاطف الطيب إستطعنا أن نشاهد جرأة سياسية من طراز خاص من خلال تجسيد القمع السياسي الذي عاشته مصر في حقبة حكم الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر بفعل البوليس السياسي من خلال تجسيد معاناة "أحمد سبع الليل"، ليتم رفض عرض الفيلم كاملا والمطالبة بتغيير نهايته عند انتاجه سنة 1986، ليتاح عرضه سنة 2005، وهو العام الذي أجاز خلاله وزير الثقافة الأسبق فاروق حسني عرض الفيلم كاملا تكريما للفنان أحمد زكي، خلال مهرجان السينما القومي، ومن خلال سينما رأفت الميهي إستطعنا أن نشاهد فكرة مجنونة إن جاز التعبير حول أربعة سيدات يوقعن برجل واحد للزواج منه لحل مشاكلهم الإجتماعية على حساب ما أجازه الشرع من خلال فيلم "سيداتي سادتي"، ومن خلال قلم وحيد حامد نوقشت فكرة الإرهاب بطريقة مميزة في فترة كان يحارب خلالها الفكر بالسلاح، في ظل عنف كبير شهدته فترة التسعينات، وهي الفترة التي شهدت خروج فيلم "الإرهابي"، للنجم الكبير عادل إمام إلى النور.
"سينما المقاولات" تعود من جديد
وبالرغم من وجود قامات في الإخراج السينمائي والكتابة الدرامية، فشهدت الفترة الأخيرة طرحا مبالغا فيه للمشاهد الجنسية التي إعتبرها البعض حشوا زائدا على درما الفيلم بهدف الربح وجذب الجمهور على شباك التذاكر ليتهافتوا على مشاهدة الفيلم لما يحويه من مشاهد ساخنة بين البطل والبطلة، شهدت فترة السبعينات نفس الموجة فيما أطلق عليه "سينما المقاولات"، والتي كانت تهدف للربح، للتحول السينما غلى تجارة فقط، وهو ما هدد صناعة السينما وقتها، لتنجو السينما من المأزق بأيدي محبي فنها الهادف، لتبقى الأفلام السينمائية القيمة حية إلى الآن وتندثر أفلام المقاولات غلى غير رجعة.
لتعود من جديد السينما الربحية فقط، خلال السنوات الماضية، بتقديم محتوى ملئ بالعنف الجسدي والألفاظ النابية والجنس الصريح، من خلال عدد من الأفلام السينمائية كبعض أفلام النجم محمد رمضان عند بداية دخوله عالمها مثل "قلب الأسد"، و"الألماني"، والتي إحتوت على عدد من مشاهد العنف والألفاظ النابية، ما جعل معظم الشباب من المراهقين يتأثرون بطريقة محمد رمضان وشخصيته بتلك الأفلام، والتي ظهر بها في صورة الفتى القوي الذي تقع في حبه بطلات الفيلم بسبب "البلطجة"، فضلا عن الجرأة في المشاهد الجنسية من خلال عدة أفلام عرضت منها "مذكرات مراهقة"، و"حين ميسرة"، "ريجاتا"وغيرها، ما جعلنا نتساءل هل من المفترض أن تترك السينما لهوى صانعيها؟ أم تستمر الضوابط الموجودة، وإن إستمرت كيف لها أن تخرج من تحت طياتها مشاهد العنف الجسدي والجنس المفتعل الخارج عن سياق الفيلم؟.
من وجة نظر الناقدة ماجدة موريس فإن للمخرج الحق في أن يفكر كيفما شاء في الطريقة التي يخرج بها فيلمه، فكل مخرج يعبر وفقا لزمنه وثقافته ورؤيته الفنية، ولا يمكن المقارنة بين فيلم لصلاح أبوسف وفيلم جديد، وأصعب المشاهد وأقصاها بالنسبة لمجتمعنا يستطيع المخرج المبدع والفنان أن يقدمها بطريقة راقية دون أي نوع من الحرج أو خدش حياء المتفرج، فأفلام صلاح أبو سيف وكمال الشيخ كانت مليئة بالجرأة في المحتوى قدمت بطريقة بليغة وراقية وصلت المعنى المطلوب بسلاسة، كذلك ما قدمه رأفت الميهي خلال فيلم "سيداتي سادتي"، كذلك أفلام محمد خان على سبيل المثال "زوجة رجل مهم".
أما عن فرض رؤية خاصة على المخرج فترى ماجدة موريس أن المخرج ملك نفسه لا يمكن أن نفرض عليه توجه معين لكن يمكن للجمهور أن يمتنع عن دخول أفلامه المعروضه بالسينما، فمحاربة الفكر برفضه وليس منعه.
أما المخرج داوود عبد السيد فيرى أن السينما المصرية حققت موازنة حقيقية بين سقف الحريات الموجود داخل المجتمع والتنبيه بقضاياه في إطاره الأخلاقي، موضحا أن المنع المبالغ فيه للمحتوى السينائي الذي لا يروق للبعض بسبب جرأته الزائدة سينتج عنه مزيدا من الكبت المجتمعي، قائلا: "نحن نرى كل يوم في الشارع المصري تحرش جسدي يصل أحيانا للإغتصاب، فمجتمعنا به كبت جنسي كبير جدا".
ووفقا لداوود عبد السيد فلا يمكن محاربة المحتوى الفني الغير جيد بمنعه نهائيا، ففي المجتمع المتحرر يعرض كل شئ البذئ بالجيد والجمهور يختار ما يشاء وغالبا يختار الجمهور المحتوى الجيد، ففي فرنسا مثلا تعرض أفلام "بورنو" كاملة لكن لا يوضع عليها غسم مخرج أو ممثلين لعدم ضمها للفن السينمائي الفرنسي الحقيقي، لكنها في نفس الوقت لا تمنع من العرض، لأنه مجتمع حر، لكن عندما تذهبي لدور العرض التي تعرض تلك الأفلام ستجدينها فارغة، على عكس الأفلام ذات المحتوى القيم، لأن المجتمع هناك ليس به كبت يريد أن يخرجه ويلهث وراؤه.
وأوضح داوود عبد السيد أن الرقابة العمرية هي الأفضل من وجهة نظره، بأن يكتب على الفيلم الفئة العمرية التي يمكنها مشاهدته، مؤكدا أن لكل مخرج إبداعه الخاص في طرح محتوى فيلمه بالطريقة التي يراها جيدة تخدم رؤيته الفنية الخاصة.
وعن مطالبة البعض بتشديد الرقابة على المحتوى الفني المقدم بأفلام سينما مصر، سخر داوود عبد السيد قائلا: "راقبوا مواقع النت لو مش عايزين الناس تشوف الجنس"، موضحا أن هدف المخرج من خلال عرض المشهد الجرئ هو إيصال محتوى فني ورؤية إخراجية وليس المتاجرة به، كاشفا أن معياره الوحيد في العمل هو إيصال المعني الذي يريده كاملا بشكل فني راقي.