خليط متناغم من الأصوات عرفتها الشوارع المصرية لسنوات طويلة، تتعاقب واحدًا بعد الآخر، وكأنها تعزف سيمفونية تخص الشوارع المصرية وحدها.
لكل صوت موعده المحدد وأحيانًا يومه، فبإمكانك من تحت وسادتك أن تعرف فى أى يوم نحن من خلال نداء البائع الذى اعتدت أن يمر يومها، فالجمعة يخص "الروبابيكيا" والسبت تجد من يدعوك لـ"سن السكينة وأسن المقص"، أما بائع الأنابيب فهو فقرة ثابتة فى كل يوم لأنها شىء حيوى للبيوت لا يمكنه الانتظار.
عشرات الأصوات اختفت من الشوارع المصرية ورغم ذلك لم يختفِ الضجيج بل حل محلها أصوات أخرى أكثر ارتفاعًا وإزعاجًا تجعلك تحن لتلك الأصوات التى شكلت جزءًا أساسيًا من ذكريات طفولتك..
"بيكيا.. روبابيكيا"
النداء المرتفع من بداية الشارع يذكر الأم بكل شىء قديم أدخرته لهذه اللحظة، تأخذ جولة سريعة فى البلكونة وتستخرج من "كراكيب" البيت كل ما يمكن أن تقايضه بشىء جديد من البائع.
الأطباق البلاستيكية كانت البديل غالبًا وأحيانًا ما يقايضها بائع الروبابيكيا بالنقود، ثمن زهيد مقابل كل كيلو من المعدن القديم أو الكراسات والجرائد لكنها تراه دائمًا "أحسن من مافيش" كما أنه يريحها من عناء التخلص منها بطريقة مناسبة.
وأحيانًا ما كانت الاستعدادات لزيارة بائع الروبابيكيا تبدأ من الليلة السابقة أو حتى من بداية الأسبوع لتكون الأم جاهزة قبل أن يتبخر البائع فى الشارع.
ورغم أن باعة الروبابيكيا وجامعى الخردة لا يزالوا يعملون حتى الآن، ورغم أنهم شكلوا لسنوات طويلة عنصر ثابت فى الشارع المصرى إلا إنهم الآن قللوا جدًا من مناطق انتشارهم بسبب مطاردتهم من شرطة المرافق، وهو ما يجعلهم يتمنون لو يتم تقنين أوضاعهم ليمارسوا عملهم بالأريحية نفسها فى شوارع مصر.
"تن تن تن.. أنااااااااابيب"
وقع هذا النداء الشهير على أذن ربات البيوت يختلف حسب مستوى الغاز فى أنبوبتها، فإذا كانت فارغة تشعر وكأنه طوق نجاة ساقه القدر لإنقاذها من "وقف الحال"، وإذا كانت على وشك الانتهاء فهو بمثابة نداء طمأنة وتذكير بأن تأخذ احتياطتها.
هذا النداء والصوت المميز الذى لم يزعج البيوت أبدًا رغم ارتفاعه وحدته لأهميته لهم، اختفى تدريجيًا من غالبية شوارع مصر، إما بسبب توصيل الغاز فى مناطق كثيرة من البلد، وإما لعدم وجود الأنابيب من الأساس وتكرار أزمة الغاز الشهيرة.
"أسن السكينة.. واسن المقص"
بصوت يخرج بمعجزة من خلف المبرد الضخم والثقيل، ينادى "السنان" على ربات البيوت، ليذكرهن بكل سكينة لم تعد على ما يرام، وكل مقص فقد نعومته على القماش والورق، تحضر كل ما لديها من أدوات مطبخ بحاجة لقبلة الحياة من جديد والمقابل يتراوح بين جنيه إلى اثنين.
هذا النداء الذى كان يزداد كثافة مع اقتراب الأعياد والمواسم، خاصة عيد الأضحى، تراجع تدريجيًا مع ظهور مبرد السكاكين اليدوى الذى دخل كل بيت، تزامنًا مع مطاردات الشرطة للسنانين باعتبارهم خطرًا على الأمن تارة ولأنهم باعة جائلين تارة أخرى.
"بوسطاااااااااااا"
بعدما كانت تنتظر البيوت المصرية ندائه الخاطف بترقب وشغف، ليطمئنها على حبيب مغترب أو ابن طال سفره أو يعيد ربط أواصر الأسر التى تشتت داخل مصر او خارجها بحثًا عن لقمة العيش، أصبح من النادر أن تسمع نداء البوسطجى بوضوح فى شوارع مصر بعد أن أصبحت مهمته تقتصر على توصيل خطابات البنوك والمراسلات الحكومية الرسمية التى غالبًا ما تستقر فى صناديق البريد الصغيرة بالبنايات الكبيرة أو تستقر بين يدى بواب العمارة ليتولى بنفسه توزيعها.
"توفى إلى رحمة الله تعالى.. فلان الفلانى والدفنة بعد صلاة العصر"
هذا النداء الرصين الذى كان يصدر عن مآذنة أهم مساجد المنطقة أحيانًا، وأحيانًا عن عربة متجولة حال كان المتوفى من ذوى الصيت الواسع، كان بمثابة نداء للدعم والمساندة لأسرة المتوفى، فالرجال يعرفون ميعاد الجنازة ليستعدون لحضورها، والنساء يتشحن بالأسود ويسرعن إلى بيت المتوفى ليساندن نسائه ويحضرن من الطعام ما يلزم لمساندة أهل الميت.
هذا النداء اختفى تقريبًا وأصبح الناس يكتفون الآن بنعى قصير على "فيسبوك" وصورة سوداء بالموقع نفسه.