من عاش تجربة الفراق يعلم جيداً أن لحظة الوداع الأخير صفعة مستفزة لكل مشاعر الحب، صفعة تفتح لما بداخلك من مشاعر باباً واسعاً لا يرد حتى بعد أن يغمض من يودعك عينيه للمرة الأخيرة، مشاهد الوداع هى وحدها ما تختزل حياة كاملة، مشاعر صادقة، وعوداً مقدسة، ووصايا أخيرة، وهى خير ما يمكنه تلخيص حياة كاملة عاشتها سيدة نساء أهل الجنة، حاملة لقب "سيدة نساء العالمين" عن جدارة واستحقاق.
السيدة فاطمة الزهراء بنت محمد التى لخصت مشاهد الوداع فى حياتها كل ما ذكرته عنها كتب السيرة، وكل ما ورثته عن سيرتها نساء أمة محمد، لم يكن مشهد وداعها فقط هو ما يستحق التأمل ولكن بداية من مشهد وداع النبى صلى الله عليه وسلم كتبت السيرة حكاية "فاطمة" الابنة الأكثر قرباً لقلب سيد الخلق، والمرأة الأكثر ذكراً فى أحاديثه، ومن وضعها النبى ضمن أربعة سيدات هن المبشرات بالجنة فى حديث شريف عن السيدة عائشة قالت إنى سمعت رسول الله يقول "سيدات نساء أهل الجنة أربع: مريم بنت عمران، فاطمة بنت محمد، خديجة بنت خويلد، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون".
فى اللحظات الأخيرة اختارها النبى عليه الصلاة والسلام ليخبرها أنه الوداع الأخير، اختصها بحديث منفرد ليؤكد لها أن اللحظات القادمة هى أخر عهده بالدنيا كما نعرفها، بكت فاطمة، فأردف النبى مبشراً "أنت أول الناس لحوقاً بى يا فاطمة" فضحكت مستبشرة، اطمئن قلبها لأنها لن تفارقه لسنوات يشق عليها احتمالها، اطمئنت لأشهر الشوق التى ستحتملها كارهة حتى اللقاء القريب، كما اختارها النبى دائماً لكنفه، اختارها أيضاً لمجاورته الجنة، فهو من ضرب الأمثلة على حب أب اختار أن يكون لابنته صديقاً مقرباً، واختارت هى أن تكون له صديقة فضلى، هو من ضرب الأمثلة بكيف يمكن لأب أن يحتوى ابنته طفلة، وأنثى وامرأة، هو من سمح لمشاعر غيرة الأب على ابنته بالظهور عندما علم منها أن "على ابن أبى طالب" ينتوى الزواج عليها، فقال رسول الله صلى الله على وسلم لعلى ابن أبى طالب " إنما فاطمة بضعة منى يريبنى ما رابها ويؤذينى ما آذاها" رواه البخارى، هكذا كان النبى محمد الأب فى علاقته بفاطمة.
أما وداع فاطمة الذى انتظرته بعد موت أبيها بصبر فارغ، بينما شاق "على" الذى حزن لفراقها، فسجلت به "فاطمة" الكثير من المواقف التى تركتها دروساً لكل نساء الأمة، هى من أحبت زوجها فاختصته بالوداع، هى من طلبت من "على" قبل موتها أن تنفرد به فى حديث مطول، تركت به فاطمة الوصايا التى ذكرتها عنها كتب السيرة لعلى ابن أبى طالب، أوصته ألا ينكشف جسدها على غيره، فطلبت منه أن يقوم بغسلها دون أن ينزع عنها ثوبها، أوصته بأن يتزوج من بعدها لأنها تعلم تمام العلم أن الرجل لا يمكن له الحياة بدون امرأة بجانبه، أوصته على أحفاد النبى "الحسن والحسين" وضغطت على يديه فى رجاء قائلة :
يا بن العمّ، إنّى أجد الموت، الذى لابدّ منه، ولا محيص عنه، وأنا أعلم أنّك بعدى، لا تصبر على قلة التزويج فإن أنت تزوجت امرأة، اجعل لها يوماً وليلة واجعل لأولادى يوماً وليلة.. يا أبا الحسن ولا تصح فى وجههما، فيصبحان يتيمين غريبين منكسرين، فإنّهما بالأمس فقدا جدّهما واليوم يفقدان امّهما، فالويل لامّة تقتلهما وتبغضهما".
أوصته متجاوزة دموعه حزناً على فراقها، أن يدفنها سراً، أن يحملها للقبر وحده ليلاً، وألا يسير خلفها سوى من أخلص فى حبها وحب النبى عليه الصلاة والسلام، فى وداعها الأخير لخصت فاطمة علاقتها بعلى فى وصايا عكست فيها حباً جماً لزوجة أحبت زوجها وعاونته فى الشدة والفقر، أغمضت عينيها وقالت مودعة "يا عليّ، أنا فاطمة بنت محمد، زوّجنى الله منك لأكون لك فى الدنيا والآخرة، أنت أولى بى من غيري، حنطنى وغسّلنى وكفّنى بالليل وصلّ عليّ، وادفنّى بالليل ولا تعلم أحداً، واستودعك الله، واقرأ على ولدى السلام إلى يوم القيامة" ، فسلاماً على فاطمة سيدة نساء أهل الجنة، هكذا خلق الله امرأة تشع حباً لتضئ حياة من حولها.