عندما أراد الله أن يكرم من خلقه الأنثى اصطفى "مريم"، كان له عز وجل حكمته فى اختيار أنثى ويفضلها ليضرب بها مثلاً لجميع خلقه بأنه كرم النساء ووضعهن فى منزلة لم يفهمها من دونوا التاريخ فيما بعد من وجهة نظر ذكر لم يسمح لأنثى بأن تضع نصيبها من القصص، على الرغم من كون نصيب الأنثى فى التاريخ بمختلف فروعه وما يشمله من أزمنة هو نصيب الأسد بحق، هى من تمتلك الجانب الأخر دائماً، فى محرابها تكمن الإجابات، وفى طيات ما تحمله من أسرار تكمن التفسيرات التى تكمل مشاهد منقوصة من روايات التاريخ، عشرات الشواهد فى العقيدتين المسيحية والإسلامية هى التى تؤكد أن السيدة العذراء "مريم" كانت من المختارين، ليس كما اختار الله انبياؤه ورسله، ولكن فى مكانة اخرى تختلف عن منزلة الأنبياء، اصطفاها الله برسائله وعلاماته منذ طفولتها يتيمة فى محراب "زكريا" الذى كفلها بإرادة إلهية بعد أن شق على امها الطاعنة فى السن رعايتها، واصطفاها بعطايا لم تتوقف، فكانت تأكل وتشرب من عطايا الرحمن عز وجل، وأتاها منذ بداية حياتها رزقاً من حيث لا تحتسب، وضع لها من الاختبارات ما يكفى لاختبار ما بداخلها من صلابة ورضا، وبعث من خلالها للبشرية رسائل لا يفهمها سوى من يذوب فى عشق "مريم" العذراء المؤتمنة.
السيدة العذراء، ابنة عمران وأخت هارون كما ذكرها القرآن الكريم، البتول الشفيعة المباركة كما ذكرتها الأناجيل المسيحية، وسيدة نساء أهل الجنة كما ذكرها النبى "محمد" صلى الله عليه وسلم" فى حديثه عن نساء أهل الجنة عندما قال "عليه الصلاة والسلام": أفضل نساء اهل الجنة أربعة، خديجة بنت خويلد، مريم بنت عمران، فاطمة بنت محمد وآسيا امرأة فرعون"، فهى امرأة أحبها الله، ووضع لها قسطاً لا بأس به من المحبة التى تجلت فى أكثر من صورة، بدأت بمحبة المنح والعطايا فى الرزق، ثم محبة الامتحانات التى اختار الله أن يختص بها "مريم" دون غيرها، فى بيئة لا تسمح بوجود امرأة تضع مولوداً مجهول الأب استقرت مريم بأول امتحانات الله، جنين لا أب له ينمو فى احشائها، يبشرها به ويكلمها ويبعث لها بالوحى، فى مكانة أخرى بعيدة عن النبوة، أنجبت عيسى الذى تكلم فى مهده ليبرأها من ظنون من حولها، مرحلة أخرى من مراحل المحبة كانت محبة المعجزات التى شكلت حياة "مريم العذراء" وأم المسيح عيسى، واختتم الله محبته بمساحة واسعة لها فى كتابه الأخير، سورة كاملة باسمها، وهى المرأة الوحيدة التى سميت سورة فى القرآن الكريم باسمها، وذكر من بعدها مريم باسمها الصريح 34 مرة فى القرآن الكريم، بينما تحدثت عنها سورة آل عمران التى سميت باسم أهل مريم بنت عمران، فكيف لصاحبة مثل هذه المحبة الخالصة من الله ألا تبشر بالجنة فى حديث صحيح؟.
وإلى جانب محبة الله التى هونت ما عاشته "البتول" من حياة قاسية، فلها من المواقف ما تركته لنا أرثاً، ما تركته لبنات جنسها من قواعد تصلح للحياة، ما علمتنا حياة "مريم" التى صبرت على ابتلاء ثم أخر يتعدى حدود الصبر على المحن، فهى من تركت لنا رسائل اختفت بين سطور حكايتها، كيف صبرت وهى بنت العشر سنوات وقتها أو ما يزيد من عامين لخمس أعوام -وفقاً للرواية التى تذكر سنها أثناء حملها بعيسى- على موقف بهذا الحجم، بشرى من الله بطفل ينمو بداخلها وتلده منفردة؟، كيف واجهت نظرات من حولها واتهاماتهم حتى أنطق الله عيسى فى مهده لتبرئتها؟، كيف ضربت لنا العذراء مريم مثالاً فى التعامل مع الآخرين من أصحاب الأحكام المسبقة، ممن يلصقون الاتهامات بدم بارد؟، كيف خلد الله فى شخص مريم العذراء مبدأ لا يعترف به الجميع اليوم عندما يطلقون الأحكام دون أسئلة؟ وضع الله فى اختيار "مريم" لدورها فى تاريخ البشرية رسائل لمن يفهمها، أن الله يحب عباده، يبتليهم ليكافئهم عند الصبر، وضع الله مبدأ فى شخص البتول أن الأنثى لها مساحة خاوية لتسطر بها ما يخصها من التاريخ، وأن الأنثى مكرمة ولها فى محبته نصيب لا يعرفه من يضعون النساء فى المرتبة الأدنى، وأن الله عز وجل أراد بمشيئته أن يظل هو وحده صاحب الحكم النهائى، هو من له الكلمة العليا الفاصلة، وليس من حق البشر إطلاق الأحكام المسبقة.