هل تذكرين عدد المرات التى تلقيتِ فيها نظرة صادمة من أحدهم تخفى خلفها مئات التعليقات التى فشلت عينيه فى كتمانها، بداية من "إيه اللى انتى لابساه ده" مرورا بـ"خربتوا البلد"، وحتى "استغفر الله العظيم يا رب"؟، بحنق وغيظ وكأنما كلفه الله بتصحيح مسار حياة بنات الأرض أجمعين يلقى عليكِ بنظرة التصنيف التى تميزها الفتيات جيدا، وقد ينعتك بالتصنيف عابراً إذا سمح له الموقف، هل تذكرين عدد المرات التى أقحم أحدهم أنفه فى نقاش محتدم حول وضعك ومكانك بالنسبة لله تعالى؟ وتحدث كالعالم ببواطن الأمور وخوارجها أنكِ بعيدة تمام البعد عن الله لأنك انقطعتِ عن الصلاة، أو لأنكِ غير محجبة، وغير ملتزمة بينما الفتاة الملتزمة يجب أن يكون لها شكل معين، مواصفات معينة، درجة صوت ثابتة، وكلمات تندرج تحت قاموس الممنوع، بالطبع تذكرين مئات المواقف المشابهة، وبالطبع مررت أنت وأنا وكل فتاة أخرى كتب عليها الله الخروج لهذا المجتمع بمواقف أكثر عنفاً وقسوة وتصنيفاً ممن وضعوا انفسهم فى موضع "الحاكم بأمر الله"، والذى فى حقيقة الأمر لا يعلمون عنه شيئاً قبل أن يحكمون بأمره، هل حاولتِ يوما الرد على واحد من هذه المواقف بحكاية كفيلة بأن تثير ابتسامك بمجرد الاستماع لهذه الأسئلة، تذكرى حكاية "آسيا" التى اختارها الله للقرب دون أن تلتزم بالمواصفات التى وضعها حكام هذه المواقف، تذكرين حكاية امرأة اختارها الله للسكن بجواره فى قصر من قصور الجنة.
"آسيا بنت مزاحم"، أو امرأة فرعون كما ذكرها القرآن الكريم وذكرتها كتب التاريخ كامرأة لديها القدرة على الاختيار، كانت ملكة متوجة، لديها من معالم الترف ما يكفيها دهراً كاملاً، هى امرأة فرعون الحاكم التى تتحرك الدنيا وفقاً لإشارة منها، بدأت قصتها بالعثور على تابوت "موسى" الطفل الذى قذفت به أمه فى اليم بعد أن أمر زوجها بذبح الرضع، احتضنته كأمه، وأقنعت زوجها بأن يكون لهما طفلاً، ثم صدقته نبياً، عندما بدأت رحلته مع النبوة، استمعت باهتمام لأخبار فوزه فى معركة السحرة، ثم أعلنت إيمانها برب موسى، لم تختر الملك، والمال، اختارت العذاب تحت صخرة ضخمة فى حرارة الشمس التى ألقى بها فرعون تحتها للرجوع عن الإيمان برب موسى، وأثرت أن تطلب من الله الذى آمنت به لتوها أن يريها بيتها فى الجنة، وكان ما طلبته، فهى من صنع لموسى حاجزا للصد، هى من آمنته وحمته من غدر فرعون حتى يشتد عوده ويكمل رسالته، هى من أحبت طفلها فصدقته وآمنت بربه، وهى من احتملت العذاب من أجل نظرة لقصرها فى الجنة، وهى من وضعها النبى محمد "عليه الصلاة والسلام" ضمن أربعة سيدات وصفهن بأنهن من "كملن" خديجة بنت خويلد، فاطمة بنت محمد، ومريم بنت عمران، وآسيا بنت مزاحم، امرأة فرعون.
أما عما أراد الله أن يبعثه من رسائل من شخصية "آسيا"، فهى رسائل لنا نحن بنات نفس الجنس، ورسائل لمن وضع حولنا الإطار، لا يعلم سوى الله وحده من صاحب القلب السليم، هو وحده من يملك القدرة على معرفة ما بداخل القلوب، علم ما بقلب آسيا فوضعها فى مكانها الصحيح، هو من يختار درجات القرب بين العباد، ليس بمقدار طول حجابك، أو بدرجة انخفاض صوتك عن الحديث مع رجل، الله وحده هو من يضع القواعد ويسن القوانين، ويحكم بالقرب والبعد، ويختار من عباده من يرضى عنه ويضع له بجانبه قصراً يتجاوز عظمة قصور أهل الأرض، فسلاما على "آسيا" خير نساء أهل الجنة، امرأة اختارت الله فاختارها بمحبة.