كان يحب نفسه ويعشقها ، ويرى أنه أجدر الناس بالحياة على الأرض ، وكان يقول لصاحبته " اننى أحيا، اننى أقتل ، أننى أمارس قدرة المدمر ، قدرة محمومة تبدو مقدرة الخالق إزاءها تقليدا مضحكا ، وهكذا يكون المرء سعيدا ، قد يقال اننى مذنب وسفاح ، ولكن من ذا الذي يجرؤ على ادانتى في هذا العالم الذي لا قاضى فيه سواى ؟!
والحق إن تلك اللوثة التي أصابت عقل "جايوس كاليجولا " امبراطور روما الشاب - من 37 م إلى 41 م - لم تكن جديدة عليه فقد سبقه إليها الإمبراطور تيبريوس زوج امه اجربينا التى استطاعت إقناع زوجها – بعد ان أصيب بخبال في عقله - بأن يولى عهده لولدها الذى لم يكن من صلبه ، وبعد أن أقر مجلس الشيوخ تنصيب ربيب الامبراطور خلفا له انتابته نوبة صرع وأغماء لم يعرف سببها ، حتى خيل الى بطانته انه قضى نحبه فالتفوا حول كاليجولا الذى كانت أمه قد اوزعت الى أحد رجالها بان يكتم أنفاس زوجها بوسادة حتى لا يفيق ..!
حين جلس كاليجولا على عرش روما أعلن – تقربا الى مجلس الشيوخ - انه سيتعاون معهم فى كل الامور وانه سيسير على النهج الذى كان يسير عليه الامبراطور اغسطس فى سياسته ووعد بتخفيض الضرائب واقامة الالعاب الكبرى واعادة ضحايا سلفه المنفيين ولاح انه سيكون على النقيض منه فى كل شئ ، ولم يمض على اعتلائه العرش ثلاثة اشهر حتى كان قد اكتسب حب الشعب فقربوا للالهة مائة وستين الفا من الاضحيات شكرا لها على ان وهبتهم زعيما رحيما محسنا !
يحكى التاريخ – كما يقول ول ديورانت فى قصة الحضارة - ان الشعب الرومانى كان قد نسى حسبه ونسبه اذ كانت جدته لابيه ابنة انطونيوس وكانت جدته لامه ابنة اغسطس وهما القائدان اللذان تنافسا بعد مقتل قيصر وقد تجددت فى دم كاليجولا تلك الحرب التى ثار عجاجها بين القائدين وبرغم ان الامبراطور الشاب كان يفخر بمهارته فى المبارزة والمجالدة وركوب العربات الحربية فانه كانت تنتابه نوبات الصرع ويكاد فى بعض الاحيان يعجز عن المشى او التفكير وكان يختفى اسفل سريره اذا سمع هزيم الرعد ويفر مذعورا اذا شاهد اللهب وكان مصابا بالارق يطوف به ليلا فى جنبات قصره الواسع يصيح طالبا طلوع الفجر وكان طويل القامة ضخم الجسم.
اقنع المواطنين بان يذكروه فى وصاياهم ويجعلوه وارثا لهم فكلما احتاج لمال لجا الى القاء على من يملك اكثر حتى ينال الارث بعضه او كله واندفع كاليجولا بعد ذلك الى فرض الضرائب على كل شئ على كل طعام يباع وعلى كل الاجراءات القضائية حتى الحمالين فرض عليهم الضريبة والاكثر من ذلك انه فرض ضريبة على مكاسب العاهرات تعادل مقدار ما تناله الواحدة منهن مقابل كل لقاء وقرر القانون ان تظل من لجات الى التوبة خاضعة للضريبة حتى بعد الزواج وكان الاغنياء فى ايامه يتهمون بالخيانة ويحكم عليهم بالاعدام لتصادر اموالهم لصالح الخزانة العامة وكلما زادت امواله زاد تبعا لذلك اسرافه حتى لم يلب ثان افرغ خزانة الدولة فبددها تبديدا منقطع النظير وكان من عادته ان ينثر من شرفة قصره النقود الذهبية والفضية على الشعب من تحته ثم يراقبهم فى مرح وسرور وهم يتنازعون نزاعا قاتلا على اختطاف هذه النقود .
كان آخر ما لجأ اليه كاليجولا من العبث وجنون العظمة ان اعلن انه اله معبود لا يقل شانا عن جوبيتر كبير الالهة عند الرومان فامر بتحطيم رءوس التماثيل الشهيرة المقامة للارباب لتوضع فى مكانها رءوس للامبراطور وكان يسره ان يجلس فى الهيكل ويتلقى عبادة الناس وما يقدمونه قرابين وادعى ان الهة القمر قد نزلت اليه وعانقته.
يرسم الكاتب الفرنسى البير كامى فى قصته عن كاليجولا نهاية الطاغية المجنون فيقول "يجتمع أشراف روما يتبادلون الشكوى فيما يتعمده الإمبراطور من تحقيرهم والتعسف فى معاملتهم ويتبادلون تذكر ما نالوه منه فاحدهم اغتصب كاليجولا عاره وممتلكاته والثانى قتل اباه غدرا والثالث سلبه امرأته والرابع قتل ولده وتذكروا ان الأغنياء منهم كانوا يتهمون بالخيانة ويحكم عليهم بالإعدام لتصادر أموالهم لصالح الخزانة وكان هو نفسه يبيع المصارعين والأرقاء بالمزاد العلني في سوق الرقيق ويرغم الأشراف على حضور المزاد والاشتراك فيه واشتدت حمية القوم وثورتهم بان ينطلقوا ليقتحموا القصر ليفتكوا بالإمبراطور " النذل السفيه وأكثر الطغاة جنونا " ولكن كايوس شيريا ضابط الحرس المتآمر على مولاه – الذي طالما أهانه كاليجولا بالألفاظ البذيئة التي كان يبلغها إليه كل يوم لتكون بمنزلة سر الليل وجواز المرور- قال للمتآمرين بل نترك له الحبل على الغارب ولندفعه في هذا الطريق حتى نجعل من جنونه حقيقة ملموسة ولن يلب ثان يحين يوم يصبح فيه وحيدا تجاه دولة مليئة بالموتى وابناء المقتولين !
وتمضى أيام ثم يفاجأ كاليجولا بقعقعة سلاح خارج غرفته ويدخل المتآمرون وينقضون عليه طعنا بينما هو يضحك في خبل ثم تتحول ضحكاته إلى شهقات ويواصل الصراخ وهو يخرج الكلمات من بين شفتيه مختلطة بالغطيط " اننى حي ،لا أزال ، فالآلهة لا تموت ".
ولكن كاليجولا عرف في ذلك اليوم انه ليس إلها قط !!