صورة مصر ... وصورة عبد الناصر

كانت الطائرة تهبط في مطار مدينة العيون عاصمة منطقة الصحراء المغربية في ظهر يوم ربيعي منذ أكثر من ثمانية عشر عاما، كنا ثلاثة، الزميل الكبير سعد هجرس رئيس تحرير جريدة العالم اليوم وقتها، والزميل أمين محمد أمين نائب رئيس تحرير الأهرام وقتها، وكاتب هذه السطور كنت - وقتها - مديرا لمكتب جريدة الأهرام بالمغرب ، كان في انتظارنا علي أرض المطار والي محافظ العيون - حينئذ - النشيط والمثقف حسن أوشن . اصطحبنا الوالي ومرافقوه إلي مبني الولاية وعلي مائدة الغذاء التي أقيمت تكريما لنا دار حديث ذو شجون حول مشكلة الصحراء المغربية المتنازع عليها بين المغرب و جبهة البوليساريو حيث ألقي مضيفنا باللوم علي الحكومة الجزائرية التي تحتضن قيادات الجبهة وتستخدمهم في مناوئة المغرب كورقة ضغط في الخلافات التاريخية بين البلدين، وتطرق الحديث بالطبع إلي مصر والعلاقات المصرية المغربية فانطلق الوالي المغربي في نقد طويل للزعيم الراحل جمال عبد الناصر متهما القيادة المصرية في عهده بتبني المواقف الجزائرية وبمساندة الجزائر بالمال والسلاح والرجال في حرب الرمال الشهيرة التي اندلعت بين البلدين صيف عام 1963 هناك شائعة منتشرة بشكل كبير في المغرب - وإن لم أتأكد من صحتها - تقول أن الرئيس مبارك تم أسره علي يد الجيش المغربي في تلك الحرب - كان قائد سرب وقتها - بعد أن سقطت طائرته داخل الأراضي المغربية ، وكيف أن عبد الناصر كان يؤلب الشعوب العربية علي الأنظمة الملكية، وأن.. وأن.. وأن. انبرينا خاصة الأستاذ سعد هجرس وأنا في الدفاع بالقدر الذي سمحت به لنا أصول الضيافة وطريقة الرجل الدبلوماسية المهذبة وغير الهجومية.

بعد الغذاء ذهبنا للراحة في الفندق، وفي المساء جاءت سيارة الولاية لتأخذنا إلي حيث استراحة الوالي علي شاطئ المحيط الأطلنطي علي بعد حوالي سبعة وعشرين كيلومترا عن مدينة العيون، كانت عبارة عن بناية تضم ما يشبه الشاليه من طابق واحد علي مياه المحيط، وبمجرد أن دخلنا من الباب الرئيسي للبناية حيث كان الوالي المهذب في انتظارنا استرعي انتباهنا بشدة صورة كبيرة جدا يحيطها إطار مذهب رائع لجمال عبد الناصر تتوسط الحائط المقابل للباب بحيث تكون مرئية للداخل من باب الشاليه ولكل الجالسين في الردهة الكبيرة للمنزل التي تضم الصالونات وغرفة الطعام، فهتفنا جميعا مندهشين دي صورة عبد الناصر أهيه ، ابتسم السيد أوشن وقال: نعم فأنا احتفظ بها منذ سنوات طويلة وأنقلها معي في كل بيت أسكن فيه، وانبري الوالي يحكي لنا عن مساندة عبد الناصر للثورة المغربية التي اندلعت عقب نفي الملك محمد الخامس عام 1952 وحتي عودته واستقلال المغرب عام 1956، وكيف حملت الجماهير في مدينة الدار البيضاء سيارة عبد الناصر المكشوفة علي أكتافها في إحدي زياراته للمغرب هذه القصة سمعتها أيضا في مدينتين أخريين علي الأقل هما دمشق وبيروت ، ولما لاحظ الوالي أننا مازلنا علي دهشتنا، تذكر حديثه علي مأدبة الغذاء في مقر الولاية فاستدرك قائلا: أوه نسيت.. فمن كان يحدثكم ظهر اليوم هو حسن أوشن والي ولاية العيون، أما من يتحدث معكم الآن فهو المواطن حسن أوشن الذي يعشق عبد الناصر مثل كل الشعب المغربي .

تذكرت منذ أيام هذه الحكاية القديمة، ففي 28 سبتمبر الفائت مرت ذكري وفاة جمال عبد الناصر الذي فارق الدنيا منذ أكثر من ثلاثة وأربعين عاما لكنه لم يفارق قلوب الناس حتي الآن، ولم تفارق صورته عيون أجيال كثيرة ولدت بعد رحيله، وتأبي الأحداث التي تمر بنا وعلينا إلا أن تذكرنا به كل يوم، خاصة في زمن الهوان الذي نعيش فيه الآن. وما من كارثة عربية أو مصرية تحل بنا إلا ويتساءل الجميع هل كان يمكن أن يحدث ذلك في عصر عبد الناصر؟!، أكثر من أربعة عقود من الضعف والهوان والتراجع والمحن والكوارث ونحن نسأل أنفسنا هذا السؤال.

بقيت صورة عبد الناصر الغائب منذ أربعة عقود، وتراجعت لدي الجماهير العربية من المنامة إلي الرباط ومن اللاذقية إلي عدن صورة مصر الحاضرة ذات السبعة ألاف سنة حضارة وذات ال 90 مليون نسمة ورائدة العرب في العلم والثقافة والحرية والثورة والأدب والفن والصحافة والعسكرية والمقاومة و.. و و.. ، فأين مصر الآن التي يستنزف الإرهاب جنودها البواسل في سيناء بعد سنوات طويلة من غياب الدولة.. وبعد سنة من ترعرع قوي الإرهاب في ظل رئيس إرهابي يحكم باسم جماعة إرهابية خائنة، أين مصر التي تآكل دورها وتراجع حتي عن كونها -؟ يا للعار - وسيطا بين الفلسطينيين وإسرائيل في ظل حكم مبارك!.

رغم كل ما يمكن أن يقال عن عبد الناصر وعن عصره الذي اختلف فيه وحوله ومعه الكثيرون إلا أن ما يحدث لنا الآن من عار ومهانة على أيدي الإمبريالية الجديدة في سوريا وليبيا والعراق ، ومحاولات لتقزيم وتفتيت مصر من الحلف الصهيوني الأمريكي الإخواني لم يكن ليحدث لو أننا مازلنا نعيش عصر عبد الناصر.. عصر الكرامة والنخوة العربية، وعصر العزة المصرية...

كيف؟، هذا حديث أخر.



الاكثر مشاهده

"لمار" تصدر منتجاتها الى 28 دولة

شركة » كود للتطوير» تطرح «North Code» أول مشروعاتها في الساحل الشمالى باستثمارات 2 مليار جنيه

الرئيس السيسى يهنئ نادى الزمالك على كأس الكونفدرالية.. ويؤكد: أداء مميز وجهود رائعة

رئيس وزراء اليونان يستقبل الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي محمد العيسى

جامعة "مالايا" تمنح د.العيسى درجة الدكتوراه الفخرية في العلوم السياسية

الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي يدشّن "مجلس علماء آسْيان"

;