ينشر "انفراد" الفتاوى الواردة على موقع دار الإفتاء فى القضايا، التى تهم المواطنين، حيث سأل أحد الأشخاص، عن حكم الذكر جماعة وجهرًا عقب الصلاة.
وكان رد دار الإفتاء أن مشروعية الجهر بالذكر ثابتة بالكتاب والسنة وعمل الأمة سلفًا وخلفًا، وقد صنف جماعة من العلماء فى إثبات مشروعية ذلك؛ كالإمام الحافظ السيوطى فى رسالته "نتيجة الفكر فى الجهر بالذكر"، والإمام أبى الحسنات اللكنوى فى كتابه "سياحة الفكر فى الجهر بالذكر" وغيرهما.
وقد ورد الأمر الشرعى بذكر الله تعالى والصلاة على النبى صلى الله عليه وآله وسلم مطلقًا، ومن المقرر أن الأمر المطلق يستلزم عموم الأزمنة والأمكنة والأشخاص والأحوال؛ فالأمر فيه واسع، وإذا شرع الله سبحانه وتعالى أمرًا على جهة الإطلاق وكان يحتمل فى فعله وكيفية إيقاعه أكثر من وجه فإنه يؤخذ على إطلاقه وسعته، ولا يصح تقييده بوجه دون وجه إلا بدليل.
فمن أدلة الكتاب فى الأمر بالذكر على جهة الإطلاق: قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا • وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾ [الأحزاب: 41-42]، فهذا خطاب للمؤمنين يأمرهم بذكر الله تعالى، وامتثال الأمر حاصل بالذكر من الجماعة كما هو حاصل بالذكر من الفرد.
وقوله تعالى: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِى يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾ [الكهف: 28]، وامتثال الأمر بمعية الداعين لله يحصل بالمشاركة الجماعية فى الدعاء، ويحصل بالتأمين عليه، ويحصل بمجرد الحضور.
ومن السنَّة: ما رواه البخارى ومسلم من حديث أبى هريرة رضى الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِى بِي، وَأَنَا مَعَهُ حِينَ يَذْكُرُنِي، أن ذَكَرَنِى فِى نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِى نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِى فِى مَلَأٍ ذَكَرْتُهُ فِى مَلَأٍ هُمْ خَيْرٌ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ مِنِّى شِبْرًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إلى ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِى يَمْشِى أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً». قال العلامة ابن الجزرى فى "مفتاح الحصن الحصين": [فيه دليل على جواز الجهر بالذكر، خلافًا لمن منعه] اهـ.
وقال الحافظ السيوطى فى "نتيجة الفكر فى الجهر بالذكر" المطبوع ضمن "الحاوى للفتاوي" (1/ 376، ط. دار الكتب العلمية): [والذكر فى الملأ لا يكون إلا عن جهر] اهـ.
وقد ساق الإمام السيوطى فى رسالته هذه خمسة وعشرين حديثًا تدل على مشروعية الجهر بالذكر، ثم قال عقبها محققًا الكلام فى ذلك: [إذا تأملت ما أوردنا من الأحاديث عرفت من مجموعها أنه لا كراهة ألبتة فى الجهر بالذكر، بل فيه ما يدل على استحبابه؛ أما صريحًا أو التزامًا كما أشرنا إليه، وأما معارضته بحديث: «خيرُ الذِّكْرِ الخَفِيُّ» فهو نظير معارضة أحاديث الجهر بالقرآن بحديث «المُسِرُّ بالقُرآن كَالمُسِرِّ بالصَّدَقَةِ»، وقد جمع النووى بينهما: بأن الإخفاء أفضل حيث خاف الرياء أو تأذى به مصلون أو نيام، والجهر أفضل فى غير ذلك؛ لأن العمل فيه أكثر؛ ولأن فائدته تتعدى إلى السامعين؛ ولأنه يوقظ قلب القارئ، ويجمع همه إلى الفكر، ويصرف سمعه إليه، ويطرد النوم، ويزيد فى النشاط.
وقال بعضهم: يُستَحَبُّ الجهر ببعض القراءة والإسرار ببعضها؛ لأن المسر قد يمل فيأنس بالجهر، والجاهر قد يكل فيستريح بالإسرار. انتهى. وكذلك نقول فى الذكر على هذا التفصيل، وبه يحصل الجمع بين الأحاديث] اهـ.
ومن خصوص ما جاء فى السنة من الجهر بالذكر جماعةً ما جاء عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم فى التكبير فى العيدين؛ فعن الحسن بن على رضى الله عنهما قال: "أمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ أن نَلْبَسَ أجْوَدَ مَا نَجِدُ، وَأَنْ نَتَطَيَّبَ بِأجْوَدَ مَا نَجِدُ...، وَأَنْ نُظْهِرَ التَّكْبِيرَ، وَعَلَيْنَا السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ" رواه البخارى فى "التاريخ" والحاكم فى "المستدرك"، والطبرانى فى "المعجم الكبير". قال الحاكم فى "المستدرك": [لولا جهالة إسحاق بن بزرج لحكمت للحديث بالصحة] اهـ. وقد تعقبه ابن الملقن والحافظ ابن حجر وغيرهما بأنه ليس بمجهول بل وثَّقه ابن حبان.
وعن ابن عمر رضى الله عنهما: "أن النبى صلى الله عليه وآله وسلم كان يخرج يوم الفطر والأضحى رافعًا صوته بالتهليل والتكبير حتى يأتى المصلَّى" رواه الحاكم والبيهقى مرفوعًا وموقوفًا، ولكن صحح البيهقى وقفه، وقال الحاكم فى "المستدرك": [هذه سنة تداولها أئمة أهل الحديث، وصحت به الرواية عن عبد الله بن عمر وغيره من الصحابة] اهـ.
والثابت عن الصحابة رضى الله عنهم أنهم جهروا فى مواضع من الذكر؛ كما فى تكبيرات العيد، سواء فى ذلك التكبير المقيد الذى يقال بعد الصلوات المكتوبات، أو التكبير المطلق الذى يبدأ من رؤية هلال ذى الحجة إلى آخر أيام التشريق: ففى "صحيح البخارى" أن عمر رضى الله عنه كان يكبر فى قبته بمنًى، فيسمعه أهل المسجد فيكبرون، ويكبر أهل الأسواق حتى ترتج مِنًى تكبيرًا، وهذا صريح فى الجهر بالتكبير، بل وفى كونه جماعيًّا؛ فإن ارتجاج منًى لا يتأتى إلا بذلك؛ قال الحافظ ابن حجر فى "فتح الباري" (2/ 462، ط. دار المعرفة): [وهى مبالغة فى اجتماع رفع الأصوات] اهـ. وكذلك قال الحافظ العينى والشوكانى فى "نيل الأوطار"، وأصرح من ذلك رواية البيهقى فى "السنن الكبرى" (3/ 312): [فيسمعه أهل السوق فيكبرون؛ حتى تَرْتَجَّ منًى تكبيرًا واحدًا] اهـ.
وفى "صحيح البخارى" تعليقًا: "أن ابن عمر وأبا هريرة رضى الله عنهم كانا يخرجان إلى السوق فى أيام العشر يكبِّران، ويكبِّر الناس بتكبيرهما". وقد وصله الفاكهى فى "أخبار مكة" (3/ 9-10، ط. دار خضر) بلفظ: "فيكبِّران فيكبِّر الناس معهما لا يأتيان السوق إلا لذلك". وهذا والذى قبله صريحان فى التكبير الجماعى.
وهكذا جاء الأمر الإلهى بالصلاة والسلام على النبى صلى الله عليه وآله وسلم؛ فقال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56]، وامتثاله حاصل بفعله فى جماعة أو على انفراد.
وبناءً على ذلك، فالذكر الجماعى أمرٌ مشروع فى المسجد وفى غيره، وتبديعه فى الحقيقة نوع من البدعة؛ لأنه تضييق لِمَا وسَّعه الشرع الشريف، ومخالفة لما ورد فى الكتاب والسنة وهدى السلف الصالح وعلماء الأمة المتبوعين.