أحببت «جهل العشق» فى بلادى عن «عقلنة» غربة مشاعر الغرب للإنسان، كتبت هذه الجملة بعد أن مررت على منزل قديم فى مدينة سمالوط بالمنيا، منزل متهالك، يتوسط سوق من الباعة لم تستطيع اصواتهم أن تحجب عنى بيت شعر إبراهيم ناجى فى قصيدة العودة:
هذه الكعبةُ كنّا طائفيها/ والمصلّين صباحاً ومساء/ كم سجدنا وعبدنا الحسن فيها/ كيف بالله رجعنا غرباء.
لم يعد بالمنزل أحد سوى عبق الذكريات، كنا نصعد الدرج وكأننا نصعد منارة كنيسة أو مئذنة مسجد، ننتظر منها الصلاة على الوطن والمحبة، سيدة تستقبلك بابتسامة ساحرة تفيض كرما كالنيل فى فيضانة، وجه جميل كأحد «وجوه الفيوم»، ندخل المنزل من خلال تلك الابتسامة، لم أكن أسأل عن صاحب المنزل لأنه كان فى قلبها، ابتسامتها التى كانت تتسع لما يضيق به الزمن، نصعد الدرج إلى عمق أسرار الوطنية، فى المواجهة صالة وصور زفاف الأستاذ فؤاد والسيدة سميرة، صورة أخرى للعذراء تحتضن المسيح فى اطمئنان ببيت فؤاد وسميرة، على اليسار كانت غرفة الاجتماعات التى كانت تشبة الهيكل فى كنيسة الوطن بمنزل فؤاد ناشد عجمى، أحد قديسين اليسار الحقيقى، المناضل «الارخن»، الخادم الذى طالما شعرت من رائحة الحب فى حضنه بأننى لا أحتضن منشورات من الحزب بقدر ما كنت أستشعر أن ما أحمله مقدس، وحينما كانت تلامس يدى يد تلك الزوجة لم أكن أشعر سوى بأننى أمام أيقونة حب أسرى ووطنى تتخطى كل ما يضمر به القلب من إخلاص معتاد من أمثال الست سميرة أم علاء، وحلاوة الفرح فى بريق عينيها تؤكد أن الذى بنى مصر سيدة، نعم سيدة «إيزيس»، من فرحة عيون أم علاء كانت تطل إيزيس الملكة، تلك الملكة التى كان يرمز لها كامرأة على حاجب جبين الوطن والأمومة لدى قدماء المصريين، وأصبحت شخصية بارزة فى مجموعة الآلهة المصرية، الأسطورة كانت حول كيف قتل «ست» إله الشر أخيه «أوزوريس» وفاض النيل بدموع إيزيس حتى ظهر جسد أوزوريس وجمعته وأنجبت منه حورس إله الخير، كانت إيزيس أشهر الربات المصريات جميعا وكانت مثال الزوجة الوفية حتى بعد وفاة زوجها، والأم المخلصة لولدها، امتدت عبادة إيزيس فى عهد البطالمة واليونان إلى ما بعد حدود مصر، وكان لها معابدها وكهنتها وأعيادها وأسرارها الدينية فى كل أنحاء العالم الرومانى، حيث صارت تمثل ربة الكون «أنا أم الطبيعة كلها، وسيدة جميع العناصر، ومنشأ الزمن وأصله، والربة العليا، أحكم ذرا السماء ونسمات البحر الخيرة وسكون الجحيم المقفر».
كثيرون فى مصر لا يدرون من تلك السيدة التى أتحدث عنها، هى زوجة زميل وأستاذ قديم أحب الوطن حبه لأولاده وتخطى كل شىء من أجل الوطن.
كنت الأصغر ولكنى كنت آخر من ينام وأول من يحلم، وكان الأقرب إلى فؤاد ناشد، المهندس الزراعى ومسؤول تنظيم التجمع منذ التأسيس وحتى الرحيل، أحب وطنه كما حزبة وأسرته، وبعد أن هجم السادات على التجمع بعد انتفاضة يناير 1977 وألقى القبض على معظم قيادات الحزب، وسجن من المنيا أنور إبراهيم وأحمد عبدالعزيز وأحمد رشاد وفتح الله خفاجى وأنا، لم يبقَ خارج الأسوار سواه، وبتواضع قام برعاية أسر المعتقلين وأعطى لمن هم خلف الأسوار الأمل، كل ذلك قام به فى صمت ودون أن يعلم أحد، وكان يفتح مقر الحزب ويجلس فيه بمفرده لساعات ويسافر إلى القاهرة، ويأخذ نشرة الحزب «التقدم» ويوزعها سرا على الأعضاء بعيدا عن أعين الأمن، وفى نفس الوقت يجوب يصنع خيرا للفقراء، ويهتم بالعمل النقابى فى نقابة الزراعيين، واستطاع رغم هجوم السادات الضارى على اليسار أن يفوز بعضوية مجلس إدارة النقابة الفرعية بالمنيا نوفمبر 1977، وحينما خرجنا من المعتقلات وجدنا الحزب قامته عالية، واستطاع أن يجمع شتات اليسار وأن يضم الطبيب الشاب د. وجيه شكرى الذى صار أمين التجمع فيما بعد. ووسط الملاحقات الأمنية كان يستطيع دائما أن يزرع بذور اليسار فى قرى سمالوط من طرفا غربا إلى بنى خالد شرقا، وسافرت للدراسة 1978 فى موسكو وعدت 1987 لأجده كما هو القائد القوى المتواضع الصامت، كان التجمع حينذاك يضم قادة وطنيين مناضلين حقيقيين مثل فؤاد ناشد والدكتور الصيدلى رمزى فهيم، والدكتور مهندس ميلاد حنا، والمحامى عريان نصيف وآخرون، وطوال الثمانينيات والتسعينيات كان بطلنا فؤاد ناشد يقود السفينة ويقدمنا نحن الشباب للقيادة ويجلس هو فى مؤخرة الصفوف.
لكن لا أحد يدرى أن فيض انسانية فؤاد ناشد إلا لو أدرك زوجته أم علاء، إيزيس التى جمعت كل الأشلاء فى رحمها لتلد للوطن روح فؤاد التى تعشش على ذلك الوطن دون ضجيج أو أعلام، رحلت والخريف يلملم أشلاءه فى عام 2008، كانت دائما فخورة بزوجها، وكما يقول ابنها أيمن: «يوم وفاة أبى قالت لى: الناس فى العزاء يتكلمون عن أبيك وعن عطائه، وأمى كانت رمانة الميزان تخاف على أسرتها وأبنائها من جور تفانى أبى، أتذكرها وهى تحرق المنشورات القديمة، أتذكرها وأولادها يقعون من على السرير أثناء نومهم حين كان يأتى زوار الفجر، للتفتيش تحت المراتب فى زمن السادات، لا أملك إلا أن أشكرها لأنها أعطت من أمومتها ما يحافظ على أسرتها كما أعطى أبى للوطن، سلاما لروحك ولقلبك كل الحب».
قصة أم قادت أسرة مناضل قاد حزبه نحو الوطن القادم من أعماق الجرح وأحلام الشعراء العشاق.