كان العالم حتى منتصف الثمانينيات يتجاذب نحو تياران أحدهما يجمح به نحو اليمين والثانى يشده إلى اليسار، وما بين الرأسمالية والاشتراكية، كان ركب الإنسانية يسير حائراً متعثراً، لكن كل هذا مضى إلى طيته، حينما سقط الاتحاد السوفيتى على يد "جورباتشوف"، إلا أن العالم ما زال يبحث عن قبس أسمى، ومثل أعلى، وعالم أفضل، تغدوه الرغبة فى العدالة الاجتماعية، ونشدان الحقيقة، واحترام الكرامة الإنسانية.
وحيث إن السواد الأعظم من سكان العالم الآن يتجاوزون مرحلة الرأسمالية بصورتها المعاصرة، أو يقاربونها، فقد كان لزاماً علينا أن نتابع سير "الرأسمالية المعاصرة" وندرس منحنى تطورها من أوائل التسعينيات إلى الآن، وما دخل عليها من ضغوط، لكى نستكمل الإحاطة بواقع الإنسانية والمعاش، إذ أنه عن طريق دراسة الواقع، تتسنى لنا أن نحدث بما يجب أن يكون عليه المستقبل، وعلى هذا الأساس يصبح فى إمكاننا إنارة السبيل أمامه إرساء دعائم "نظرية شمولية جديدة" مستمدة من واقعنا متفق مع تراثنا وقابلة للتطبيق على مجتمعاتنا ومستوعبا لطموحاتنا.
من سمات الرأسمالية المعاصرة اقتصاديات الوحدات الكبيرة تلك القوة الجبارة التى فككت وأعادت تركيب العلاقات الاقتصادية، فمسخت كل العلاقات التى كانت تقوم على أساس من العادات والتقاليد والعواطف الإنسانية بين العامل وصاحب العمل، أو أى علاقة لا تستند إلى اعتبارات "الربح والخسارة"، حيث إن الميل الرئيسى فى الأسواق يتألف من عدد كبير من البائعين، يقابله عدد كبير من المشترين، وكل شىء سلعة، أى قابلاً للإنفاق والصرف والاستبدال، ووضع لافته "للبيع" على كل شىء فى العالم، وجعل "النقود" الرابط الوحيد المتبقى بين رجال الاقتصاد الفرديين.
وحيث إن "مصطلح المنافسة" أصبح عنصر إذابة وتفتيت للعلاقات الإنسانية، ما لبث أن ولدت نتائج عكسية، إذ أخذت تبنى علاقة مستحدثة، ونظماً جديدة، فغدت قوة دمج وتركيز. إذ قامت عملية التنافس هذه - بقوتها الذاتية الكاسحة - بخلق وحدات إنتاجية أكبر حجماً وأقل عدداً من خلال ما يعرف بنظام الاندماج والاستحواذ لتستعملها فى معركة التنافس، إذ أثبتت الوحدات الكبرى أنها أقدر على الثبات فى هذه المنافسة غير الشريفة.
ومر هذا التطور بمراحل من الحرفى الفردى، والتاجر الفردى إلى الصناعى الفردى والذين أخذوا يخسرون فى ميدان التفوق والتبريز، إلى الشراكة، ثم انهزمت هى الأخرى أمام الشركة المساهمة وأخيراً برزت الشركات العملاقة عابرة القارات والاتحادات، فأصبحت تتولى صناعة كبرى أكثر من عشرة أو احدى عشرة شركة بصورة اتحادات أو كارتيلات . مما أفضى إلى أن مثل هذه الوحدات العملاقة هى الان المسيطرة على اقتصادياتنا المعاصرة، وهؤلاء الأشخاص المأساوية الحاسمة هم من يتحكموا فى مصائد الشعوب حول العالم، يقيموا حرب أو ينشروا السلام، ينشدون العدل الاجتماعى أو القهر الإنسانى، ليقولوا لنا نحن بنى أدم، مؤسساتنا العملاقة فى كل عالم الرأسمالية الثلاث : أمريكا وأوروبا وأسيا، هى ربكم الأعلى فى الأرض.
* أستاذ الاقتصاد السياسى والمالية العامة – جامعة القاهرة .