نعيش فى بيتنا العتيق بوسط البلد ، بيتنا الذى نعتز به كثيرا ، ونفخر بأننا لم نضطر إلى مغادرته حتى فى أحلك الظروف ، فى زلزال 1992 تشبثنا بالجدران وكأننا نسندها ولم يداخنا الخوف على حياتنا ، بل خشينا أن يتصدّع بيتنا الذى عشنا فيه أجمل أيامنا ونظرنا إلى العالم من نوافذه وشرفاته
وفى أواخر سنوات حكم مبارك ، حذرنا أصدقاء كثيرون من ثورة الجياع الآتية لا محالة ، ونصحونا ببيع بيتنا التاريخى والحصول بجزء من ثمنه على فيلا عصرية بإحدى المدن الجديدة ، كانوا يتحدثون كثيرا عن ضرورة مواكبة العصر وكيف أن المستقبل للمدن الجديدة والكومباوندز المحمية بأسوار ورجال أمن طوال الأربع والعشرين ساعة ، أما البيوت العتيقة خصوصا فى وسط البلد فمن يحميها من أطماع واضعى اليد ومن اللصوص الطارئين وهجمات الجائعين والفقراء وهم على حافة الانفجار ، ورغم التحذيرات والنصائح لم نغادر بيتنا وأصررنا على حمايته والاحتماء به
وبعد ثورة ٢٥ يناير ، انتشر اللصوص والنهابون وملأ الغرباء شوارع وسط البلد وانتشرت الأسلحة بأنواعها فى أيدى الناس، ولم نستسلم للخوف ونصائح الهروب من مناطق الزحام ، ونظمنا أنفسنا مع الجيران فى لجان شعبية تحرس الممتلكات وتمنع الغرباء من التواجد بمنطقتنا ، وكنا نسهر الليل بالتناوب حول الأخشاب المشتعلة فى عز البرد حتى يعرف اللصوص والمجرمون أن للبيت رب يحميه
ومع الصعود المشئوم لجماعة الإخوان الإرهابية واختطافها حكم مصر ، سعى زبانية خيرت الشاطر إلى شراء بيتنا العتيق ضمن مجموعة البيوت الفريدة فى وسط البلد ، وأرسل لنا مرات عروضا مختلفة وما يتصور أنها إغراءات مادية كما أرسل لنا مرات أخرى تهديدات صريحة بمغادرة البيت وتسليمه بالبيع وفق شروطه أو هدمه على رءوسنا دون مقابل ومصادرة الأرض وفقا لما أسماه المنفعة العامة ، لكننا صمدنا للإغراءات والتهديدات وحمينا بيتنا حتى انزاحت غمة الإخوان، وكان جميع أفراد أسرتنا أطفالا وشيوخا ونساء وشبابا من المشاركين فى ثورة 30 يونيو والفرحين بها والآملين فيما بعدها
تدريجيا ، تراجعت الفوضى والانفلات الأمنى وأصبحنا أكثر أمنا على بيتنا العتيق من ذى قبل ، لكن أصدقاءنا واصلوا نصائحهم وتحذيراتهم من الفترة المقبلة التى يمكن أن تشهد إعادة تخطيط للمدينة ، واحتمال أن نفقد بيتنا للمنفعة العامة ونخسر فارقا كبيرا فى السعر لو تقاعسنا عن استغلال الطفرة العقارية الراهنة لاستثماره بالبيع أو الهدم وإعادة بناء عمارة شاهقة على نفس الأرض لتحقيق ثروة توفر الحياة الرغدة لجميع أفراد أسرتنا ، لكن شيئا ما جعلنا نرفض المتاجرة ببيتنا العتيق أو محاولة استغلاله كما يفعل التجار الغرباء الذين لا يعرفون قيمة التاريخ ولا الذاكرة ولا الجمال ولا المعنى الذى يحمله الزمن.
فى الأيام الأخيرة ، حدثت فى بيتنا ظاهرة غريبة لم نصادفها فى أحلك اللحظات التى مرت علينا وعليه ، تدريجيا بدأ سقف البيت فى الهبوط دافعا الجدران إلى الغوص فى باطن الأرض ، وفى البداية ظننا أن الظاهرة تحتاج معماريا أو بنائين لتنكيس البيت وتدعيمه ، وأحضرنا أفضل المعماريين والبنائين والمهندسين ليعاينوا البيت ويصفون العلاج الذى يمنع انهياره ، لكنهم جميعا حاروا فى توصيف الظاهرة ، بعد أن أجروا القياسات اللازمة للأساسات وقدرة الجدران على التحمل ، وتوصلوا إلى أن هبوط السقف سيتوقف عند حد معين ولا داعى للخوف من انهيار البيت
ورغم ما أبداه المهندسون والبناءون من تفاؤل ، إلا أن سقف بيتنا واصل ضغطه على الجدران ، والجدران واصلت الغوص فى الأرض حتى تحول بيتنا ذو الطابع التاريخى والمعمار الإيطالى الشاهق إلى ما يشبه القبو ، وحتى ندخله ، ينبغى أن نزحف على بطوننا إلى الداخل ، ولم يعد أمامنا إلا نصب خيام فى حديقة البيت الصغيرة وأن نعيش فى بيتنا العتيق الجميل خائفين مثل اللاجئين الغرباء ، وها نحن ننتظر حلا لمعضلة السقف