أيام قليلة تفصلنا عن الاحتفالات بـ"عيد الأم"، فى 21 مارس من كل عام، حيث يلتف الأولاد حول "ست الحبايب" فى المنازل لتقديم الهدايا، فى انتظار دعوات خالصة من الأمهات، بالصحة والستر وراحة البال.
هذا المشهد المألوف فى جميع منازلنا المصرية، محرومة منه بعض السيدات، اللاتى يقبعن خلف أسوار السجون، بتهمة الفقر، سيدات يعرفن هناك بـ"الغارمات"، لم يقتلن أو يسرقن أو يتاجرن فى المخدرات، وإنما دفعتهن الحاجة و"العوز" إلى مد أيدهن للغير للاقتراض، والتوقيع على إيصالات أمانة بمبالغ أضعاف ما حصلن عليه، وما أن حل موعد السداد وعجزن على الإيفاء بالأموال، وجدن أنفسهن خلف أسوار السجون.
نعم.. هناك محاولات مستمرة لسداد ديون الغارمات، محاولات ـ رسمية وشعبية ـ لانتشال الغارمات من السجون، إلا أن الأعداد تتزايد باستمرار، بسبب الفقر وقلة الحيلة، وبالرغم من المبادرات التى قادتها الجمعيات الخيرية ورجال الأعمال لسداد ديون الغارمات وخروج أكثر من 44 ألف من الغارمين والغارمات، إلا أن الآلاف منهن مازلن يمثلن أرقاماً صحيحة فى دفتر السجينات.
من خلال زياراتى للسجون المصرية، خاصة سجون السيدات، لاحظت الغارمات يتحركن بحياء ويتحدثن بصوت منخفض، لا تكاد السيدة منهن ترفع رأسها إلى السماء إذا سألتها عن اسمها، وتستحى أن تقوله ثلاثيًا.
وفى مقابلة مع إحدى السجينات وسؤالها عن اسمها أجابت بصوت خافت: "فاطمة"، تحكى قصة جديدة من قصص الغارمات، تعود بذاكرتها إلى سنوات ماضية، عندما فوجئت بابنتها أصبحت "عروسة" وتبارى الشباب للزواج منها، لكن الفقر والحاجة يقفا حائلاً دون إتمام الفرحة، وتفشل الأسرة فى تجهيزها، وتحاول الأم أن تحمى فرحة ابنتها، فتذهب إلى شركة تبيع الأجهزة الكهربائية تشترى منها جهاز العروس، وتوقع إيصالات أمانة بعشرات أضعاف ثمن البضاعة ويحل موعد سداد الدين، فتعجز الأم عن الوفاء، ليكون السجن نهاية المطاف.. يطلقها زوجها وتفقد ابنتها العريس الذى رفض أن تكون حماته "رد سجون"، ويذهب كل شىء، ولا يتبقى سوى الحسرة والدموع، حتى يجمع ضباط الشرطة زكاة أموالهم ويسددون دينها لتخرج إلى الدنيا مرة أخرى.
سيدة عجوز تخاف أن تصافحها بقوة خشية أن تسقط منك على الأرض، تسبق دموعها حروفها، تتحدث معى عن "الثلاجة" التى أدخلتها السجن، عندما قررت أن تجهز ابنتها فتراكمت الديون، وهرع تاجر عديم الضمير لتحرير بلاغات ضدها بموجب إيصالات أمانة ضعف المبالغ الموجودة بها، لتجد نفسها بين أسوار السجن.
الأمر لم يختلف كثيراً لدى سيدة عشرينية، تبارت لتشرح أسباب دخولها السجن، عندما وجدت زوجها عاطلا لا يجد فرصة عمل فاقترضت من أجل توفير مبلغ لشراء "توك توك" لزوجها ليأكل منه عيشاً، فتراكمت الأقساط ودخلت السجن، قائلة: "إحنا مش تجار مخدرات ولا مشينا بطال لا سمح الله.. إحنا دخلنا السجن عشان ما حدش حاسس بينا.. تعرف تهمتنا إيه! تهمتنا الفقر يا أفندم".