وجوه عابسة وعقول بائسة وأصوات ما أنكرها وروح بلا روح، القتل غايتهم والسيف دستورهم والموت فى سبيل شيطانهم أسمى أمانيهم، زعموا أنهم جند الله الغالبون فخذلهم وأرجعهم مدحورين، وكذبوا حين قالوا إن الرسول قدوتنا وما كانوا مقتدين، ما هم إلا ألسنة المتعصبين، الذين وصفوا محمدا صلى الله عليه وسلم بأنه صاحب قسوة ، وتنزه محمد صلى الله عليه وسلم المذكور بالرحمة فى العليين .
محمدا صلى الله عليه وسلم القائل "لا يرحم الله من عباده إلا الرحماء " نهض بعظائم الأمور كإقامة الدين وإصلاح الأمم من فساد الزمان وضلال الأوثان، لم يمنعه ذلك من أن تأنس نفسه للفكاهة ويفيض عطفا على المتفكهين، يعلم أن النفس البشرية تميل بطبيعتها للمزاح، فكان يعطى كل مزية حقها، إذا ذكر أحدهم أمرا من أمور الدنيا ذكره معهم وإذا ذكر أحدهم أمرا من أمور الآخرة شاركهم .
كان الصحابى نعيمان بن عمرو - وقد شهد بدرًا وأحد- مشهورا بالدعابة ، ولا يراه النبى إلا ويبتسم ، ويروى الزبير بن بكار أحد أعلام المدرسة الأخبارية الحجازية، فى مخطوطته"الفكاهة والمزاح"، الرواية 28 ص 27، حدثنا الزبير، حدثنى يحيى بن أبى الحارث بن عبد الله الأصغر بن وهب بن زمعة، عن قريبة بنت عبد الله الأصغر بن وهب، عن أبيها عن أم سلمة زوج النبى قالت: إن أبا بكر خرج تاجرا إلى بصرى ومعه نعيمان وسويبط بن حرملة، وكان الأخير على الزاد، فجاءه نعيمان فقال: أطعمنى، فقال: لا حتى يأتى أبو بكر، فأقسم نعيمان ليغيظه، وذهب إلى قوم فقال لهم: أتشترون منى غلاما؟ قالوا: نعم، قال: لعله يقول أنا حر ولست بعبده، قالوا: لا بل نشتريه ولا ننظر فى قوله، ثم أراهم إياه، فقالوا لسويبط: قد اشتريناك، فصرخ: هو كاذب أنا رجل حر إنه يتهزأ، سخروا منه وقالوا: قد أخبرنا خبرك، فطرحوا الحبل فى عنقه وأخذوه، ولما جاء أبو بكر قص عليه نعيمان قصته، وذهب ليفتديه ويعيده، ثم قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك هو وأصحابه منها حولا كاملا.
وروى عنه الزبير بن بكار عددًا من النوادر الطريفة، وفى الرواية رقم 24 ص 24 من نفس الكتاب؛ قال حدثنى عمى مصعب بن عبد الله عن جدى عبد الله بن مصعب عن ربيعة بن عثمان، قال إن أعرابيا أقبل على ناقة فدخل المسجد وأناخها بفنائه، فقال بعض صحابة النبى لنعيمان: لو نحرت ناقة الرجل فأكلناها؟ ويغرم النبى صلى الله عليه وسلم حقها، فقال إن فعلت ذلك وأخبرتم رسول الله بما صنعت لغضب علىّ، قالوا: لا نفعل، فنحرها نعيمان ثم انطلق إلى المقداد بن عمرو، وخرج الأعرابى رأى ناقته قد نحرت فصاح: واعقراه يا محمد، فسأل الرسول صلى الله عليه وسلم من فعل ذلك قالوا: نعيمان ، فاتبعه حتى أتى على المقداد، فقال النبى: هل رأيت نعيمان؟ فقال وهو يشير إلى مكانه: ما رأيته يا رسول الله، فوجده قد اختفى فى خندق وجعل عليه الجريد، فأخرجه الرسول وقد تعفر وجهه بالتراب، فقال له: ما حملك على ما صنعت؟ قال: الذين دلوك علىَّ هم الذين أمرونى، فأخذ رسول الله يضحك ويمسح عن وجهه التراب، ثم غرم ثمن الراحلة، وكان النبى صلى الله عليه وسلم إذا ذكر صنيعه ضحك حتى تبدو نواجذه.
وفى الرواية 27 ص 27 ذكر الزبير، أنه كان لا يدخل المدينة رسل إلا اشترى نعيمان منهم، ثم يأتى إلى النبى صلى الله عليه وسلم ويقول: هذا هدية لك يا رسول الله، فإذا جاء صاحبه يطلب ثمنه من نعيمان جاء به إلى رسول الله فيقول نعيمان للنبى: اعط هذا ثمن هذا، فيقول النبى: أولم تهده لى، فيقول: يا رسول الله لم يكن عندى ثمنه وأحببت أن تأكله، فيضحك النبى صلى الله عليه وسلم ويأمر لصاحبه بثمنه.
يقول العقاد فى "عبقرية محمد" إن استراحة النبى صلى الله عليه وسلم إلى الفكاهة هى مقياس الآفاق النفسية الواسعة التى شملت كل ناحية من نواحى العاطفة الإنسانية، وهى المقياس الذى يبدى من العظمة ما يبديه الجد فى أعظم الأعمال، ولا ينقص المزاح من حق الصدق والمروءة ، وإذا مزح محمد فإنما يعطى الرضا والبشاشة حقهما، فمزاحه آية من آيات النبوة لأنه كذلك آية من آيات الإنسانية، ولم يكن بالنقيض الذى يستغرب من نبى كريم".
وعلى كثرة مزاحه عرف عن نعيمان ابتلاؤه بشرب الخمر ، وذكر الزبير بن بكار فى الرواية 27 ص 27، "حدثنا الزبير وحدثنى يحيى بن محمد قال: حدثنى يعقوب بن جعفر بن ابى كثير، قال: حدثنى أبو طوالة عبد الرحمن بن عبد الله الأنصارى، عن أبى بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه قال: كان بالمدينة رجل يقال له نعيمان يصيب الشراب"، وكان الرسول يؤدبه جزاء شربه ولكن تأديب مشمول بالعطف ، فلما أستأذن أحدهم النبى أن يقتله لإدمانه الخمر قائلا "اتركنى أقتل هذا المنافق" ، منعه محمد وقال : لا إنه يحب الله ورسوله ، أما فى زماننا خرج علينا قوم نزع الله من قلوبهم الرحمة ، ادعوا كذبا اتباعهم لله ورسوله ، لا يتورعون عن قتل مسيحى فى كنيسة أو مسلم فى مسجد ، ولم يشفع لهم حب لله أو رسول .