ضوء خافت يخرج من شرفتها، تتسرب أحاسيس حبى لها فى كل شرايينى.. لا أعرف لماذا هذا الاختفاء المريب، رغم أن لقاءنا الأخير كان طيبًا، رقيقًا، ناعمًا كنعومة جلدها المخملى.. أشم رائحة جسدها عبر ذلك الضوء الذى يخترق عينى، أغمضهما لأستمتع بذكريات حلوة قضيتها معها طوال عام كامل من الحب الملتهب.
لا أدرى لماذا تغيرت.. رغم أن مزاجها دائمًا متقلب، إلا أن غزارة مشاعرها كانت تغرقنى وتنسينى هذا التقلب.. حنيتها تجرجر أعماقى لتخرج من بين ضلوعى، وتجمعها بين كفيها فيقتلنى رونق نظرتها الحالم، فأسقط بين ذراعيها، ألتهم حبات العشق رويدًا رويدًا.. بلغت من العمر أربعين عامًا، وعرفت من النساء ما لم تسعفنى الذاكرة بحصرهن، لكننى أقسم برب السماء والأرض أن قلبى لم تنفضه امرأة فى الكون مثلها.. لم ينتزعنى حب كحبها.. سأترك برودى المعتاد، وأقتحم خلوتها التى فرضتها على قسرًا لتعيد حساباتها.
لن أترك لها فرصة إلا أن تختارنى فى حياتها.. رغم أننى كنت أرى أن من قواعد الرجولة تعدد النساء فى حياتى، لكن «سلمى» غيرت منظومة الأفكار داخل رأسى.. حولتنى لرجل لا يرى ولا يسمع ولا يشم.. ولا يشعر إلا بأنوثتها.. وجودها فى حد ذاته نعمه من الله.. كلما رأيتها أردد كلمات الراحلة العظيمة أم كلثوم «أنا مخلوق مخلوق علشانك يادوب علشانك.. علشانك أنت».
فى الماضى كنت أبحث عنها بين الوجوه، بين القلوب المحبة، وكان الارتباط بالنسبة لى فى هذا التوقيت أمرًا محتمًا، فعلاقتى الزوجية قد ملأتها الشقوق، وتسرب إليها العطب.. وتوقفت منذ سنوات ليست بقليلة، الغريب أننى ظننت أن الحب هو ما أكنه لزوجتى من مشاعر بحكم العِشرة والتعود، ففى الصباح أفتح عينى، أجد كوب الشاى تنطلق منه أبخرة سخونته بجوارى.
فأبتسم.. أشعر أننى زوج محظوظ، وعندما أعود فى المساء تستقبلنى زوجتى بنعاسها الذى تجمعه فى تثاؤب مستمر يشعرنى بالذنب لأننى جعلتها تسهر لانتظارى.. كنت أفتخر بكل ما تقدمه زوجتى من واجبات زوجية لرعايتى ورعاية أبنائها، وكلما اشتقت إلى جسدها بين ذراعى لم تمنعنى يومًا مهما كانت متعبة.. يا لها من مثالية كنت أجدها مفرطة!
سنوات طويلة قضيتها مع زوجتى أشعر برضا.. لكن هذا الرضا تنقصه أهم ما فيه، وهو مذاق الأشياء، هل تذوقت يومًا طعمًا للسعادة؟ هل جربت أن تضع إصبعك وتأخذ شطرًا من العشق؟! هل أحسست وهى بين ذراعيك أنك تطير لتصل للسماء السابعة وترى كل حوريات الجنة بجمالهن ودلالهن؟
عندما رأيت «سلمى» وشممت رائحة أنفاسها.. أصبحت كل الأشياء من حولى لها مذاق خاص، وقتها عرفت أننى كنت أحيا حياة الأموات، ولأول مرة أعرف المكان الحقيقى للقلب فى منتصف الصدر تقريبًا مائلًا للجهة اليسرى.. يظل ينبض ويقفز من مكانه كلما رأيتها.. آه لو لمست يدها! تنتقل إلى جسدى حرارة قلبها الذى يشع وهجًا، فيشتعل قلبى فرحًا، لن أحكى عن نظرات عينيها ولا ابتسامة شفتيها، لكننى سأجعلكم تشعرون بما أشعر به.
لا أنام وهى نائمة! فأمتع التأمل عندما أطل على وجهها الصبوح المتدفق حيوية وهى لا تتحرك.. رائحة أنفاسها تتسرب إلى روحى، فتعيد ما فقدته من سنوات بعيد عن طلعتها.. يغلبنى النعاس بجوارها فلا تتجرأ صورة أخرى غير صورتها لتشاركنى نومى حتى لا ينقصنى شىء منها.. شعرت كثيرًا أننى زوج خائن، لأننى أحببت سرًا وتزوجت سرًا.. عفوًا هذا ليس ذنبى.. حاسبوا قلبى الذى اخترقه حبها، فلم يترك خلية فيه إلا واتخذها أسيرة له.. افقعوا عينى التى لا تتحرك فى حضرتها لرؤية أحد سواها.. اخنقوا أنفاسى التى لا تستمد هواءها إلا من زفيرها، وإذا وجدتم فى بقية فهى لكم.. لن أستطيع الحياة بدونها، حتى ولو كان الثمن أن أخسر أسرتى الصغيرة، زوجتى وأولادى.. علمتنى زوجتى أن الأولاد ملكية خاصة للأم وليس للأب أى امتيازات إلا التى تمنحها الأم له! فإذا قالت أحبوه نفذوا، وإذا قالت اكرهوه فلها ذلك.. أتكون هذه الحياة؟!
سألت حبيبتى يومًا ما: ماذا يعنى لديك الأب؟! أبهرنى جوابها! فتحت فمى، ولم أستطع إغلاقه من الفرحة.. الأبوة هى توأم الأمومة.. كلاهما يكمل الآخر.. فإذا كانت الأم نبع المحبة والحب، فالأب نبع العطاء والأمان، فهل يستقيم الحب فى ظلمة الخوف، وهل تفيد المشاعر الفياضة والاهتمام فى فقدان الأمان.. كسرت خلوتها ورجوتها أن تقول قرارها ولا تحرمنى منها مهما كانت الأسباب.. فهى من علمتنى أن الحب يعلو ولا يُعلى عليه.. أتكون هذه مجرد أقوال، أم أنها الحقيقة؟!.. طلبت منى أن أختار أن أكون حبيبًا لها، أو أن أكون أبًا لأولادى.. قلت بلا تردد أن أكون لك حبيبًا، فجاءتنى ابتسامتها الحالمة التى بعثرت مشاعرى.. أعطِ لنفسك متسعًا من الوقت لكى تفكر، فالاختيار جد صعب!
حاولت أن أرفع صوتى بكل ما أملكه من صوت.. فوضعت أناملها الحانية على شفتى، وحركت رأسها وعينيها رجاء بأن أفكر.. تذمرت عينى، ورفعت حاجبى لكى أعترف لها أننى حاولت الابتعاد والنسيان فترة خلوتها عنى.. وتخيلت الحياة بدونها فلم تسمعنى! وأدارت ظهرها ورحلت وكل جسدها يدعونى.. أن أفكر.. أن أعيش الحياة بدونها.. لفترة ثلاثة أشهر.. لا يكون هناك أمل فى عودتها.. هذه المرة بدون عودة.. فإذا عشت الحياة بحلوها ومرها بدونها، ورضيت بما قسمه الله لى، ومن يدرى فربما تكون هذه هى ضريبة الحب.. أن يصبح ذكرى فى القلب.. وما أحلى الذكريات التى كلما تذكرناها نبتسم ونتفاءل.. عشر سنوات لم أرها.. لكن ذكراها ما زالت تستولى علىّ.. لا أنسى يوم فراقنا، كأنه بالأمس.. ابتسم.. وأقول فى نفسى «كم كانت حبيبتى حكيمة».