«توفى أمس الكاتب فلان عن عمر يناهز 90 عاما...» خبر تطالعه كثيرا فى الصحف المصرية، ولو كان مطالع الخبر بجواره صديق- خصوصا فى الوسط الثقافى- سأل من بجانبه: هل تعرف هذا الكاتب؟ فالإجابة فى الغالب: سمعت عنه أو لا أعرفه، ونادرا ما تكون: بالطبع أعرفه.
وقد يكون هذا الكاتب له مؤلفات تربو على سنوات عمره التى عاشها، وعلى كلٍّ فإن كلام السائل والمسؤول ليس عليهما لوم بقدر ما ينم عن مدى قصور وتقصير القائمين على المؤسسات الثقافية فى مصر فى حق أفذاذها، 90 عامًا يقضيها الكاتب يصول ويجول بقلمه، ولا ننتبه له إلا من خلال خبر وفاته، 90 عامًا يهمش قامة مثله وتقذى أعيننا بالقراءة عن أرباع الموهوبين وكتبهم الفارغة وننشغل بمعاركهم الوهمية وضجيجهم «النشاز»، 90 عاما ومؤسساتنا الثقافية- بكل من توالوا عليها- على أعينها الثقافية غشاوة سميكة قد لا تنقشع إلا بموت الكاتب، وقد تبقى ولا تنقشع ولا تقدمه للقارئ كما ينبغى لا فى الحياة ولا الممات.
أقول هذا بمناسبة «الملتقى الثقافى الأول.. يوسف نوفل الإبحار فى الذاكرة» الذى أقامته كلية البنات قبل أيام احتفاء به وبمسيرته الإبداعية والنقدية، وهو نفس العنوان الذى وضعته لهذه السطور.. نعم يستحق يوسف نوفل بالفعل أن نبحر فى ذاكرته ونستبطن ما بها وما تحمله، ولم لا وهو العالم والأديب والناقد الذى تموج ضفاف بحره بما يستحق التوقف والدراسة؟ نحتاج «ربان» ماهرا يبحر بنا فى هذه الذاكرة.
والملمح الأهم فى تجليات ما يمثله نوفل وأعماله أنه لا يتوقف عند حدود جيل معين، إذ يمثل همزة وصل بين الأجيال الأدبية من طه حسين ونجيب محفوظ، مرورًا بالعقود الأخيرة من القرن الماضى، وحتى وقتنا الحالى، سواء على المستوى الزمانى أو المستوى الفنى، فهو لا يعرف الجمود أو الوقوف عند مرحلة معينة والتحيز لها، حيث يجمع بين القديم والجديد الذى لا بد منه، مجاراةً للعصر وتطور الفنون الأدبية عموما، منطلقًا من تراثنا العربى القديم، فنراه يقبل بشعر التفعيلة، بل قصيدة النثر، والوسائل التكنيكية الحديثة فى الرواية والقصة، وله مبرراته فى هذا القبول لا مجال للخوض فيها.
تجمع إبداعاته أيضا بين الأكاديمى الخالص وبين ما يمكن أن نسميه «خدمى تعليمى»، فنجد أهم مؤلفاته «موسوعة عن الشعر العربى الحديث» ، وهى ببلوجرافيا تضم معجمًا لأكثر من سبعة آلاف وخمسمائة شاعر عربى، وهى خدمة جليلة يقدمها للباحثين فى مجال الشعر على وجه الخصوص ، وفى السرد العربى عن الرواية والقصة على مستوى العالم العربى.
من أعماله أيضًا: القصة والرواية بين جيلى طه حسين ونجيب محفوظ ، ومحمد عبد الحليم عبد الله وفن القصة، وتطور لغة الحوار فى المسرح المصرى المعاصر، وأدباء من السعودية، كما أنه أسهم فى وضع مناهج تعليمية للغة العربية للمرحلتين الإعدادية والثانوية.
والحق أن المؤلفات كثيرة، وإحصاؤها يحتاج مساحة ووقتا أكثر، ويحتاج كل واحد منها للوقوف عليه بتفاصيل ليس لها مجال هنا، لكن اللافت بعد كل هذا أننا نشعر أن الرجل يعيش فى دولة أو قل دول أخرى، ومن البلية القول أيضا إننا نجد الرجل قد كرم فى خارج مصر مثل الكويت والسعودية أضعاف تكريمه فى مصر، ولولا عمله الأكاديمى وترشيحاته ونهوض طلابه بمهمة نشر أعماله وتناولها فى رسائل علمية لسقط هذا القامة من ذاكرة الإبداع، فمتى ندعنا من أرباع الموهوبين ونعطى أمثال هذا الرجل حقه، متى يكرم النبى فى أرضه؟
دعوات لأستاذنا أن يبارك فى عمره وينفع بعلمه..
آه قبل أن أنسى الجانب الإنسانى لنوفل يمكن أن تسأل عنه تلاميذه، ومنهم الكثير من الأساتذة الكبار فى قطاع كبير من جامعات مصر.