القامات البشرية الكبرى كلما غابت زادها الغياب حضورا وبريقا.. غاب هيكل الذى كان يمتلك مقدرة أن يقول لا حين لا يستطيع الآخرون أن يعلنوها، ويعلن نعم حين تكون صعبة وفى الحالتين موقفه صلب وواضح لا تردد فيه وهيكل قيمة يجب أن تدرس وأن نفاخر بها لكى نتوارثها بدلا من التشوهات البشرية التى تملأ الدنيا صخبا الآن، فهو نموذج نادر لصحفى ظل على قمة المهنية والمهنة وقمة التأثير والاشتباك مع الأحداث، وقمة التواصل مع العصر وقمة الاحتفاظ بأوسع مساحة فى المصادر على مدار أكثر من 71 عاما دون منافسة فى المسافات بينه وبين الآخرين.
أحد عناصر تفرده أنه كان يملك أعلى مهارات الصحفى وأعمق تقديرات المفكر السياسى وأرقى أساليب الأديب، فجاءت نصوصه المكتوبة والمنطوقة نسيجا متفردا يصعب الوصول إليه أو حتى تقليده.
وهيكل أسطورة يجب أن ندرسها بعمق فقد تجاوز حدود القدوة إلى أن أصبح أيقونة تعنى فى حد ذاتها معنى الكاتب والصحفى، فكل ما يعمل بهذه المهنة يجب أن يتخذ من هيكل بمعلوماته ومهاراته واتصالاته وقدراته على التحليل إلى جانب مهاراته وتأثيره الممتد نموذجا، ورغم اقترابه من صناع القرار إلى أقرب نقطة وصلت فى حالة الرئيس عبدالناصر أنه كان فى قلب صناعة القرار، فإنه لم يفقد استقلاليته كصحفى وككاتب ولم يعتبر نفسه يوما سياسيا ولا صاحب منصب.
هيكل هو النموذج الأعلى لفكرة أن صاحب الفكر والقلم لا يضيف إليه منصب ولا ينتقص منه الخروج من المنصب، الكفاءة والموهبة منصب رفيع دائم فى حد ذاته، وهناك نقاط صنعت عبقرية هيكل المتفردة أنه لا يعتبر نفسه كاتبا للتاريخ بل قارئا له والفرق كبير فهو يتعامل مع التاريخ على أنه قاموس يفسر الحاضر ويشير لاحتمالات المستقبل، ويعتبر أنه «حى» طالما هو على وعى، وأن الوعى هو المعرفة، ولذلك ظلت نقطة تفوقه التى لم يستطيع أحد منافسته فيها هى المعرفة أو المعلومات التى لم يكن يتوانى حتى آخر لحظة فى حياته عن بذل أى جهد للوصول إليها ومن أدق مصادرها ومن كل نقطة فى العالم فأصبحت هى نقطة القوة فى العرض والتحليل والتأثير.
نحن كمجتمع إعلامى وكدولة وكمجتمع عموما نحتاج إلى المعرفة وإلى الدقة، والمثابرة والإصرار عليها من النقاط التى صنعت عبقرية هيكل أنه كان واعيا لفكرة أن الصحفى عليه أن يجتهد ويتعلم ويعمل حتى آخر نفس، وطبق هذا على نفسه فكانت حياته الشخصية والمهنية عبارة عن نظام صارم ودقيق ومستمر، وقد ساعدته على ذلك إرادة حقيقية وصلابة جعلت كل الأزمات التى مرت عليه والسهام التى وجهت له لا تعيب مكانته، وهذه نقطة مهمة أخرى نحتاجها كوطن وكبشر فى هذه اللحظات تحديدا.
نحتاج هذا النظام والإرادة والصلابة والتعلم والاجتهاد والعمل.. وهيكل أيضا كان مترفعا عن المعارك الصغيرة ولا يجعلها طوال حياته تأخذ مساحة منها أو مساحة فى تفكيره، وهذا الترفع والاستعلاء هو ما نحتاجه وما نحتاج أن نتعلم منه كمجتمع أيضا أنه لم ينفصل أبدا عن العصر، وأنه كان يمتلك قدرة نادرة على التحكم فى انفعالاته وجهازه العصبى والاحتفاظ بهدوئه وصفاء ذهنه فى أحلك المواقف، وهو ما كان يعبر عنه دائما بجملة الناس: «تنفعل ولا تفعل» والبقاء والقدرة دائما للفعل نحن أحوج إلى الفعل وليس الانفعال.
ولأن هيكل كان النموذج الأرقى للصحفى فليكن على الشاشات نتخذه القدوة، حيث كان يتعامل مع الصورة الذهنية للصحفى على مستوى الشكل والأداء عن قناعة ظل حريصا عليها طوال عمره، معتبرا أن هذا الجانب الشكلى فى التصرف والمظهر والصورة لا ينفصل عن القيمة الموضوعية ولهذا امتلك كاريزما طبيعية لم تتكرر فى غيره، وكان حضوره طاغيا ومؤثرا وعميقا وكان حضورا أنيقا فكرا ومظهرا. امتلك هيكل ما يجب أن نمتلكه جميعا وهو مهارة وقدرة خاصة جعلته دائما قادرا على أن يكون وحده صاحب اختيار الوقت والمكان والشكل والقضية التى يتحدث عنها، ولم يتنازل عن هذا أبدا لأنه امتلك كل هذه القيم، وكل هذا السعى وكل هذا الرقى وكل هذا الوعى. عاش هيكل أسطورة هى الأشهر والأكبر قيمة فى الصحافة العربية بل ومن أهم الصحفيين والكتاب السياسيين فى تاريخ الصحافة فى العالم. الوطن مجتمع وبشر وإدارة يحتاج لدراسة هذه الأسطورة وتطبيق أجمل ما فيها.