جانب من جوانب شخصية النبى ﷺ يغفل كثير من الناس عن معرفته فضلا عن الاقتداء به والتأسى بتفاصيله، إنه جانب الذوق فى حياته ومعاملاته وكلماته واختياراته، وطيب الكلم وانتقاء أجمل الألفاظ وأرقاها. لقد كان بأبى هو وأمى ينتقى من الكلمات أحسنها وألطفها وأرقها وكان أحرص الناس على اختيار أطيب الألفاظ وأجمل المفردات وأرقى المعاملات.. يظهر ذلك فى ما لا يحصى من المواقف والكلمات التى كان يحرص على قولها لأصحابه فى شتى المناسبات
تأمل حديث عن أقرب أصحابه أبى بكر الصدِّيق رضى الله عنه
- هل أنتم تارِكونَ لى صاحِبى، إنى قلتُ: يا أيُّها الناسُ، إنى رسولُ اللهِ إليكم جميعًا، فقلتُم: كذَبتَ، وقال أبو بكرٍ صدَقتَ، هكذا خرجت منه تلك الكلمات الرقراقة فى شأنه وهكذا كرر الكلمة صاحبي… صاحبي.. ثم يستمر فى الكلام الطيب عن صاحبه إنه ليس من الناسِ أحدٌ، أمَنَّ على فى نفسِه ومالِه من أبى بكرِ ابنِ أبى قحافةَ ولو كنتُ مُتخذًا من الناسِ خليلًا، لاتخذتُ أبا بكرٍ خليلًا، ولكن أخوة الإسلام.. سُدُّوا عنى كلَّ خَوخَةٍ، فى هذا المسجدِ، غيرَ خَوخَةِ أبى بكر. هكذا كانت كلماته العذبة تحنو على الصديق مرة بعد مرة وفى مناسبة تلو مناسبة، وليس فقط أبا بكر من خصه بذلك الذوق وتلك التصرفات الحانية ها هو يكرم جرير بن عبد الله البجلى يوم إسلامه ببردته كهدية رقيقة فرحا به وحفاوة وإكرام وما يراه بعد ذلك إلا ويتبسم فى وجهه مكرما إياه وحين يأتيه سيدنا حذيفة بن اليمان بخبر القوم يوم الأحزاب يقربه ويهدىء من روع هذا اليوم العصيب ووقعه عليه، بل ويلبسه عباءة كانت عليه يصلى فيها فلم يزل نائما حتى الصباح متدثرا بثوب النبى فلما استيقظ يداعبه متلطفا وقائلا: قم يا نومان. ويوم قدم جعفر بن أبى طالب من الحبشة وقد صادف يوم وصوله فتح خيبر يعاجله بكلمات حانية تقطر مودة يستقبله بها قائلا: لا ندرى أنفرح بفتح خيبر أم بمقدم جعفر.
ولقد كان يحرص على الذوق وطيب الكلم مع أصحابه حتى عند نصحهم فيختار كلمات ونصائح تحمل رسالة واضحة، رسالة فحواها أنه يعرفهم جيدا ويهتم بأمرهم.. يعرف خصالهم وخصائص كل منهم ويبين لهم ذلك، يقول للأشج بن عبد قيس إن فيك لخصلتين يحبهما الله ورسوله الحلم والأناة
.. يعرف خصاله ويبشره ويهديه تلك الكلمات الرائعة ويثنى على عبد الله بن عمر بين يدى نصحه بقيام الليل مقدما النصح بقول طيب: نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم من الليل. تأمل….. نعم الرجل عبد الله، كانت كلماته الحانية تسبق نصحه وبيانه وحين أراد أن ينصح لمعاذ بن جبل قدم النصح بقول يا معاذُ! واللهِ إنى لَأُحبُّك، ثم أردف: أوصيك يا معاذُ ألا تدعَنَّ دُبُرَ كلَّ صلاةٍ أن تقول: اللهمَّ أَعِنِّى على ذكرِك وشكرِك، وحسنُ عبادتكِ. وحين وجد عليه الأنصار لما أعطى أهل مكة من المؤلفة قلوبهم ووكل الأنصار لإيمانهم سارع لتطييب نفوسهم وجبر خاطرهم وقد تسرب إلى نفوسهم نوع من الحزن وتردد بينهم أن رسول الله قد عاد إلى قومه وجافاهم.ورغم أنه أولى الناس بالثقة فى أفعاله وتصرفاته إلا إنه لإدراكه طبيعة النفس البشرية قدر مشاعرهم واختار الوضوح والبيان والكلمة الطيبة والرفق ولين الكلام فقال: يا معشر الأنصار واللهِ لَو شِئتُم لقُلتُم فصدَقتُم وصُدِّقتُم جئتَنا طريدًا فآوَيناكَ، وعائلًا فآسَيناكَ، وخائفًا فأمَّنَّاكَ، ومَخذولًا فنصَرناكَ
- أفَلا تَرضَونَ يا مَعشرَ الأنصارِ أن يذهبَ النَّاسُ إلى رِحالِهِم بالشَّاءِ والبَعيرِ وتذهَبونَ برسولِ اللهِ إلى رِحالِكُم؟ فَوَ الَّذى نَفسى بيدِهِ لَو أنَّ النَّاسَ سَلَكوا شِعبًا وسَلَكتِ الأنصارُ شِعبًا لسَلَكتُ شِعبَ الأنصارِ ولَولا الهجرةُ لكُنتُ امْرَأً مِن الأنصارِ، اللَّهمَّ ارحَمْ الأنصارَ وأبناءَ الأنصارِ وأبناءَ أبناءِ الأنصارِ
- رَضينا باللهِ رَبًّا، ورسولِهِ قسمًا، هكذا قالوها وقد أخضلوا لحاهم بدمعات التأثر وعبرات الفرحة بذلك التكريم وتلك الكلمات التى تقطر بالذوق والحنان ،هكذا كان حبيبنا ﷺ، وهكذا فلنكن.