منسى بقى اسمه الأسطورة.. من أسوان للمعمورة
فى اعتقادى أنه لم يكن ليدر ببال المقاتل محمد طارق الوديع أن صيحته المدوية «قالوا إيه علينا دولا وقالوا إيه» ستحتل هذا الحيز المهول من الانتشار والتفاعل، فهو من وجهة نظرى مثل الشاعر الشعبى الذى صاغ حكمه ونسج خبرته فى أبيات تناقلتها الألسنة دون أن نعرف من ألفها ولمن ألفها، لكنها أصبحت بين ليلة وضحاها نشيدا شعبيا تتغنى به مصر فى أفراحها وتحدياتها، فهى على بساطتها وعدم تكلفها توغلت فى عمق وجدان المصريين، وغدت مثل الماء والهواء، تسمعها فتشتعل النفوس بالحماسة، تتأملها فيمتلئ القلب بحب الوطن، تعيد سماعها فتتقافز صور الأبطال أمام عينيك، تنظر إليها فتطمئن على وطنك الذى يحرسه أبناء وطنك، ويبنيه أبناء وطنك ويتغنى به أطفال وطنك.
العسكرى على من الجدعان.. مات راجل وسط الفرسان
تفضح تلك الصيحة الصادقة كل الاصطناع الذى يبذله المزيفون، فلأنها صدق محض، صارت على كل الألسنة، مثلها مثل أغنيات الستينيات الخالدة التى خلدت حالة الكفاح الوطنى ضد الاستعمار، لتعطينا درسا غاية فى البلاغة، وتقول للجميع: إن الصدق هو الشرط الأول للوصول إلى القلوب، وإن الصدق هو الكفيل الأوحد بأن يصير العمل الإبداعى أيقونة حية، كما تكشف تلك الصيحة التى أطلقها جندى، أن الفنانين العظام الذين ألفوا أغنيات الخمسينيات والستينيات التى سارت على ألسنة أكبر المطربات والمطربين كانوا أيضا جنودا، يشعرون بما يشعر به الجندى، ويؤمنون بما يؤمن به الجندى، لذلك عاشت أغنياتهم واستمرت فى جريانها الوجدانى، وصارت مصر بفضلها «تتحدث عن نفسها» «أحلى اسم فى الوجود» و«حبيبتى يا مصر يا مصر» و«وطنى حبيبى الوطن الأكبر»، و«حلوة بلادى السمرا بلادى».
شبراوى وحسانين عرسان.. قالوا نموت ولا يدخل مصر خسيس وجبان
تلك جدارية فرعونية حديثة، عليها سجل المقاتل البطل أسماء أصدقائه وأحبابه وأساتذته وأخوته فى حب مصر، مثلها مثل لوحة نعرمر، ومثلها مثل لوحة مرنبتاح، غير أن تلك الجدارية لن يمحوها ماح، ولن يستطيع أن يطمسها طامس، لا لشىء سوى لأنها حفرت فى القلوب أولا، وفيها تتضافر حماسة الجندية المهيبة متجسدة فى الصيحة التى تختم بها كل جملة، مع قوة الأرض المصرية التى لخصتها الأغنية فى تلك التيمة اللحنية الشعبية الأساسية المصرية الأصيلة، التى اقتنصها الفنان المصرى الأصيل محمد رشدى فى أغنية «خدنى معاك إذا كنت مسافر» كما استغلتها شادية فى أغنية «خدنى معاك عند الحبايب خدنى معاك» وهى فى الأساس تيمة لحنية شعبية تعزف أو تغنى قبل المواويل والملاحم الشعبية، وغالبا ما تقال: «خدنى معاك إن كنت مجبل خدنى معاك» أو «خدنى معاك إن كنت مبحر خدنى معاك»، وفى الحقيقة لا يملك الواحد سوى الدهشة من هذا الاستدعاء الذى يعكس الصدق أيضا دون قصد من الشاعر البطل، الذى عكست التيمة التى اختارها أمنية يتمناها فكأنه يقول للشهيد الذى يخلد اسمه «خدنى معاك».