طفل في السادسة من عمره في أول يوم دراسي له بالصف الأول الابتدائي، ولكنه لا يزال يحبوا على يديه وقدميه في تعلم الحروف الأبجدية للغة الضاد، مثله كباقي رفاقه في القرية داخل إحدى محافظات صعيد مصر.
حينها لم تكن قرى الصعيد قد عرفت "الكي جي وان ولا حتى التو" لكن بحكم أن عددا لا بأس به من أفراد عائلته متعلمين أجاد تعلمهما سريعا، كانت إحدى هواياته فى الصغر أن يمسك بـ"جلدة" الكتاب ليقرأ الحكم التي وضعتها الوزارة رغم كونه كباقي البشر لا يعمل بها كثيرا.
"الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية" من دون قصد كانت تلك الحكمة المنقوشة على ضهر أغلب الكتب هي التي علقت بذهنه منذ الصغر أو لا أدري إن كان القدر قد وضعها عمدا.
أصبحت حقيقة لديه وعلمته أن يختلف مع الآخر باحترام، وأن يكون مستعدا للنقاش معه على أن يظل كل منهما يحتفظ بما شاء من آراء، وعلى الرغم من أن التعليم في الصغر كالنقش على الحجر إلا أن تلك الحكمة انتحرت في زمن سرق منها كلمة "لا" لتصبح "الاختلاف في الرأي يفسد للود قضية"، ينقصها فقط أن تطبع على ظهر الكتب.
الآن عندما تختلف مع شخص تصبح في خانة الأعداء، قد نجد مبررا لذلك إذا كان الخلاف على أمر شخصي يعود بالنفع أو الضرر المباشر على أي من الطرفين، ولكن الحقيقة أسوأ من ذلك لقد صار نهج حياة حتى لو في خلاف على قضايا عامة.
كم من صديق خسر صديق له في الفترة الأخيرة بسبب خلاف سياسي، كم مرة أعمى التعصب أعيننا لندخل في صدام لا ناقة لنا منه ولا جمل مع أقرب الناس، كم مرة خونت صديق أو زميل لمجرد خلاف معك في الرأي، بتلك الطريقة باتت الحياة صعبة للغاية، الأفضل لكل منا حقا أن يعيش في جزيرة منعزلة.
ولكن الإنسان بطبعه كائن اجتماعي، لا يقوى على العيش في عزلة لماذا لا ينظر كل منا لخلافه مع الآخر بما نقش على ظهر الكتب؟، لماذا لا تنظر الدولة إلى معارضيها على هذا النحو وهى من نقشت الحكمة على "الجلدة"؟، ألا تعرف أنها جسد واحد؟، ألا تعرف أن المعارضة للنظام ككرات الدم البيضاء للجسم ذلك الجزء من الجهاز المناعي الذي سيدافع عنها ضد الأجسام الغريبة أو حتى التهابات تحدث من داخل الجسد، إن طرد الجسم كراته البيضاء فهو لا محالة يسير في طريق المرض الذي لا شفاء منه حتى يصل إلى نهايته المحتومة ويفارق الحياة، وكذلك الدولة تسير بنفس الطريق إن طردت معارضتها الحقيقية.
المعارض أيضا ليس منزّها من التخوين فتلك تهمة متبادلة يلقيها هو أحيانا على الدولة وأجهزتها، ويبقى كل منا يخون الآخر وندور فى حلقة مفرغة لا نهاية لها إلا أن تصيبنا بأمراض الضغط والقلب والسكر وضف إليها ما شئت من الأمراض.
فليعمل كل منا عقله، وليحكم ضميره، ولا يستبق بافتراض الخيانة في الطرف الآخر قبل أن يتأكد منها، وإلا نهايتنا جميعا ستكون مؤسفة، ولن تُسعد إلا الطرف الثالث الذي نبحث عنه جميعا دون أن ندرك أنه التخوين القابع داخل كل شخص فينا تجاه الآخر.