حكاية العرب فى سوريا مثل شخص أراد إصلاح نظارته، ففقأ عينه، وبعد ماراثون سبع سنوات من التدمير الدولى والحرب بالإنابة، فوق الأراضى والجثث السورية، فازت روسيا وتركيا وإيران بالنقاط على أمريكا والتحالف الغربى فى سوريا ،وفرض الروس ما أرادوا بتثبيت أقدامهم على شواطئ المتوسط واقتسام النفوذ السياسي مع الأمريكان بالمنطقة، واستدعاء إيران ومنحها شرعية التدخل فى شئون الجيران. والأخطر هو الإعلان رسميا عن قائمة اللاعبين الرئيسيين بالمنطقة بعد استبعاد العرب حتى من قائمة البدلاء، بما يعيد للذاكرة ما حدث منذ مائة عام على يد وزيري خارجية بريطانيا وفرنسا، عندما اقتسمت بريطانيا وفرنسا بموافقة الإمبراطورية الروسية منطقة الهلال الخصيب، بعد تهاوى الدولة العثمانية فى الحرب العالمية الأولى.
أيامها اتفقوا على وضع فلسطين تحت إدارة دولية، ومنح بريطانيا مينائى حيفا وعكا، وتم تمزيق أشلاء المنطقة إلى دول وكانتونات سياسية بسرية لم يعلم بها الشريف حسين، رغم اجتماع وزيري خارجية بريطانيا وفرنسا سايكس وبيكو معه، بعد اتفاقهما بأيام، وطلبا منه ضرورة مساعدة العرب للحلفاء فى الحرب، وظلت الاتفاقية سرية حتى قامت الثورة البلشفية، وفضحت المؤامرة، وكشفت حصول روسيا على القسطنطينية "إسطنبول" وضفتى البوسفور ومساحات كبيرة شرق الأناضول على الحدود المحاذية بين تركيا وروسيا.
كان مقصودا دمج الاختلافات العرقية والإثنية والجغرافية واللغوية والدينية في مزيج قابل للانفجار عند أى أزمة قومية، كما حدث فى لبنان والعراق وسوريا، وظلت الأمور متأججة تحت رماد الدولة القومية، حتى وقعت فوضى الربيع العربي الذى كان أحد أهم أغراضه استكمال الجزء الثانى من سايكس بيكو، بما عرف بالشرق الأوسط الكبير أو الجديد وكانت البداية بانتفاضة الأكراد وإعلان مسعود برزاني رئيس إقليم كردستان وقتها بانتهاء اتفاقية السايكو، والحاجة لإعادة تشكيل المنطقة من جديد.
كما أن الخريطة القديمة ولدت من رحم التآمر على المنطقة، يبدو أن الخريطة الجديدة يعاد رسمها من رحم الغضب والهوان العربى، وأشد لحظات الظلمة الحالكة للمنطقة التى راحت شعوبها وأراضيها تنتهك على موائد اللئام.
وكانت القمة الثلاثية بين روسيا وتركيا وإيران في أنقرة بمثابة إعلان تحدى لأمريكا وحلفائها في المنطقة والغرب بأن الدول الثلاث هم اللاعبون الرئيسيون في المنطقة وهكذا تم استبعاد كل القوى الإقليمية العربية من تحديد مصير دولهم، ولكن هذه المرة بصورة علنية. وفيما يبدو فإن قادة المنطقة لم يفطنوا لبرجماتية ترامب وإدارته، وأن كل الرهانات العربية على الحليف الأمريكى ذهبت سدى فى صفقات بعضها سرى، ومعظمها علنى بين الحلف الثلاثى فى أنقره والحلف الغربي في واشنطن وربما تكون تلك الرؤية الأولية للقمة الثلاثية في أنقرة ولكن الامر المؤكد أن واشتطن التي دفعت سبعة ترليونات من الدولارات لم تخرج بهذه السهولة إلا ضمن صفقة كبيرة جدا مع روسيا غير معلومة فى اللحظة الراهنة، وكل القلق أن تكون الصفقة السرية على حساب دول المنطقة، وخاصة للذين تورطوا فى حروب إقليمية غير محسوبة بدقة.
وفِي هذا الإطار لابد من الإشادة بالموقف المصرى منذ البداية الذى رفض المشاركة فى تلك الحروب الإقليمية، وأصر على موقفه رغم الضغوط الإقليمية والدولية عليه، لكى يثبت الآن صحة الرؤية المصرية منذ البداية، بل وحتى عندما ابتكرت القاهرة موقفا إبداعيا للخروج من المأزق بشرف، مثل تشكيل قوات عربية مشتركة لحل الأزمة فى سوريا، وهو ما رفضته القوى الإقليمية، وذهبت تحارب شمالا وجنوبا فى استنزاف يومى للثروات العربية.
وربما تكون ملفات قمة أنقرة حاضرة على موائد القمة العربية المقبلة فى الرياض، والاستماع للرؤية المصرية الناضجة، والتحسب لما يحاك للمنطقة بتقرير مصير الهلال الخصيب فى غياب أهله، خاصة وأن الجزء المهم من سايكس بيكو الجديدة لا تزال سرية، حتى لا يفاجئ العرب بتقرير وتقسيم أراضيه مرة أخرى، وهو آخر من يعلم.