"أسمع يا أحمد إذا حلت بى نهايتى، فقم بدفنى إلى جوار شجرة فى المنصورة.. أو أزرع لى شجرة إلى جوار قبرى.. لأننى سأعود عصفورا ولابد أن أجد مكانا يا أولاد الكلب حتى أغنى من فوق أغصانه".
هكذا أوصى الشاعر متعدد الموهبة عبد الرحمن الخميسى ولده أحمد قبيل وفاته، فكانت تلك الوصية آخر سخرياته كما وصفها يوسف الشريف فى كتابه "عبدالرحمن الخميسى.. القديس الصعلوك"، ودخل بعدها الخميسى فى غيبوبة امتدت لشهرين ثم أسلم روحه لبارئها فى أول أبريل 1987.
قيل عن صلاح جاهين أنه فنانا شاملا.. ولكن ماذا يقال إذن عن عبد الرحمن الخميسى.. الشاعر والكاتب والصحفى والأديب كاتب القصة والمسرحية والأوبريت والملحن والمخرج والإذاعى الملقب بالصوت الذهبى والمخرج السينمائى والممثل أيضا فى أوقات الفراغ.. عبد الرحمن الخميسى الطاقة الإبداعية التى لا يُشق لها غبار.
ولد الخميسى فى نوفمبر 1920 بقرية منية النصر بالمنصورة وهجرها عام 1936 إلى القاهرة باحثا عن فرصة فى عوالم الأدب والثقافة بالعاصمة، ولكن كعادة القاهرة قاسية دوما على الموهوبين، عانى الخميسى كثيرا فى بدايته، ونقل نجله أحمد الخميسى فى مقاله "عبد الرحمن الخميسى.. والدى" ما قاله والده عن لحظاته الأولى بالقاهرة:
"أنا فى القاهرة بلا أهل ولا دار.. ولا أملك شيئا غير إرادة الحياة.. ليس فى جيبى مليم. ولكن قلبى غنى بالأحلام. لم تكن لى أسرة ذات جاه، بل لم يكن لى قريب يستطيع أن يعاوننى، وقد أنفقت ليلتى نائما على أريكة فى حديقة عامة. وحين أيقظنى الصباح، توجهت إلى دار الكتب، وتناولت إفطارى وأنا سائرعلى قدمى، وكان ذلك الإفطار بعض حبات من الحمص بقيت فى جيبى من الأمس."
فاضطر للعمل كمسرى، ومصحح فى إحدى المطابع، ومعلما بمدرسة أهلية، ثم جلس فى مقهى الشعراء بباب الخلق مقابل قرشين
يكتب المونولوجات والأغانى حسب الطلب ليكسب قوت يومه.
حتى التقطه الفنان أحمد المسيرى وكان لديه فرقة مسرحية تجوب أرجاء مصر فى رحلتين. رحلة الشتاء لخط الصعيد، ورحلة الصيف لمدن الدلتا، فعرض عليه أن يعمل معه أى حاجة وكل حاجة، ووافق الخميسى حبا فى التجربة وتقديرا للمسيرى، ومن هنا تفجرت مواهب الخميسى المتعددة فى التمثيل والتأليف المسرحى والتلحين والإخراج، ثم تجلت قدرته على التقاط المواهب وتقديمها، حيث كانت فرقة المسيرى تتميز أنها لا تفرق بين أعضائها ولا تميز بين عاملا وممثلا فتوطدت العلاقات بين أعضائها، فكانت صداقة الخميسى مع نجار الفرقة محمود شكوكو الذى عبر للخميسى عن رغبته فى التمثيل والغناء، فكتب له الخميسى المونولوجات، ولحنها بنفسه وقدمه على المسرح فأصبح شكوكو لونا جديدا لم تألفه الفرقة من قبل. وذاع صيت شكوكو واتجه للعمل فى السينما.
وبعد توقف فرقة المسيرى لتراكم الديون عليها كانا عبدالرحمن الخميسى وأحمد المسيرى يجلسان على نفس القهوة التى تعرفا عليها من قبل بشارع محمد على، فدخل شكوكو بعد أن أصبح نجما مشهورا، فبادر المسيرى شكوكو قائلا: عندى لك مونولوج هيكسر الدنيا بس إيدك الأول على عشرة جنيه ودفع شكوكو راضيا.. وانكب المسيرى على الورق يكتب والخميسى يفكر، فكانت ولادة المونولج الشهير "ورد عليك.. فل عليك.. يا مجننى بسحر عينيك".
قصة انتشال شكوكو من حرفة النجارة إلى عالم الفن والشهرة لا تختلف كثيرا عن تقديم موهبة أخرى ربما تفوق شكوكو إبداعا وموهبة بعدها بسنوات. عندما كان عبد الرحمن الخميسى يقوم بإخراج إحدى مسلسلاته الإذاعية واستشاط غضبا على أحد أبطال العمل لعدم قدرته على تأدية الدور بالشكل المناسب رغم الإعادة أكثر من مرة، فما كان من الخميسى إلا أن أخرجه من الاستوديو، فوجد شابا يجلس فى الممر فسحبه من يده وأوقفه أمام الميكروفون وطلب منه أن يقرأ النص.. فقرأه.. فطلب منه أن يمثل ما يقرأ.. فمثله.. فنال أداؤه إعجاب الخميسى، ولعب الشاب الدور أمام ميكروفون الإذاعة وسار بعدها نجما وقدم برنامجه الشهير الذى أصبح علامة فى تاريخه الفنى "ساعة لقلبك".. فقد كان هذا الشاب هو "الأستاذ" فؤاد المهندس وتصادف وجوده وقتها فى الممر أمام الاستديوهات منتظرا شقيقته الإذاعية الكبيرة صفية المهندس.
والحقيقة أن تاريخ عبدالرحمن الخميسى يحفل باكتشاف النجوم، ودعم المواهب فى شتى المجالات الفنية، لعل أبرزهم الفنانة سعاد حسنى التى انتشلها أيضا ولكن تلك المرة لم تكن صنعة أو حرفة ولكن من أمام حوض لغسيل الملابس فى بيت صديقه عبد المنعم حافظ –زوج أمها- إلى عالم الشهرة والمجد مقدما لها دور البطولة فى فيلم حسن ونعيمة الذى كتب قصته وصاغ السيناريو الحوار له.
حكى الخميسى قصة اكتشافه لسعاد حسنى فى صحيفة السياسة الكويتية يناير1977:
"قد يتساءل بعض القراء: لماذا يُعنى أديب مثلى بأن يكتب قصة اكتشافه لسعاد حسنى النجمة السينمائية؟ وهل هذا الموضوع يستحق من الخميسى أن يمنحه وقتا وجهدا؟ فى رأيى أن تقديمى لقصة سعاد حسنى يحمل دليلا قاطعا على أن الشعب غنى بمواهب أبنائه البسطاء العاديين، وأن تلك المواهب إذا وجدت الرعاية اللازمة، شقت طريقها إلى أعلى مستويات.
كانت سعاد حسنى حين دخلت إلى البيت واقفة لصق حوض مياه فى الممر تغسل ملابسها، وتدعكها دعكا بيديها، وخصلات شعرها تغطى جبينها، وأجزاء من وجهها، ولم أكن أدرى لحظتها أن جدائل شعرها المنسكبة تختزن وراءها اللؤلؤة النادرة المثال والتى أصبحت تخلب بالفن قلوب الملايين.
ويفسر الكاتب يوسف الشريف سر اهتمام عبد الرحمن الخميسى بسعاد بأنه كان يعلم أن سعاد ابنة محمد حسنى، وكان يعرف قسوة حسنى فى معاملة ابنته نجاة الأخت غير الشقيقة لسعاد، فكان يعرف ما يفعله مع نجاة واستغلاله لها حتى أنه كان يسقيها الخل عنوة حتى يمنع نموها وتبقى دوما نحيفة، فتظل فى نظر الجمهور الطفلة الرقيقة التى تقلد أم كلثوم. فكان والدها يظن أنها إذا كبرت ربما فقدت جمهورها، وفقد هو بطبيعة الحال مكاسبه من وراءها، لذلك رق قلب الخميسى لسعاد فربما نالت هى الأخرى قدرا من العذاب على يد والدها، فقرر بعد أيام من التفكير إسناد بطولة فيلمه الجديد حسن ونعيمة إليها.
وتحسبا لموقف هنرى بركات مخرج الفيلم، أوكل الخميسى إلى الممثل إبراهيم سعفان تعليم "سعاد" اللغة العربية والإلقاء وتدريبها، ثم اختبرها الخميسى ونجحت، فقدمها لهنرى بركات وأقر بنجاحها أمام اختبار الكاميرا، لكنه لم يوافق على إسناد البطولة لها.
أصر الخميسى على موقفه بأن تكون الوجه الجديد سعاد حسنى بطلة الفيلم ومحرم فؤاد البطل أمامها، وقد كان وقتها مطربا مغمورا وكان قرار الخميسى تحديا وعنادا منه بعد أن عرض الفيلم فى البداية على فاتن حمامة وعبد الحليم حافظ فطلبا منه قراءة السيناريو، فغضب لطلبهما واعتبرها إهانة لتاريخه وتشكيكا فى إبداعه وحرفيته، وأقسم ان يقدم الفيلم بوجوه جديدة، ورضخ هنرى بركات مخرج العمل، وكذلك الفنان محمد عبد الوهاب منتج الفيلم لشطحات الخميسى وكسب عبدالرحمن الخميسى الرهان ونجح الفيلم وانطلقت سعاد حسنى فى عالم الشهرة والنجومية وكذلك محرم فؤاد.