نحن جيل تربى على الرضا والقناعة والسمع والطاعة، وذلك لأسباب كثيرة هى بالأساس تعتمد على التربية الصحيحة وطبيعة ذلك المجتمع الواعى الذى كنا نعيش فى كنفه تحت سماء صافية غير ملبدة بغيوم الغضب والكراهية الحالية، أما جيل اليوم فجيل (متشيطن)، جيل يمكن أن يحطم كل شيء إذا لم يحصل على ما يريد، جيل لا تقنعه المسلمات ولا يرضى بأى شيء متاح، بل إنه يرى ويسمع ويقارن ويسأل بصوت عال جدا، هذه الجملة جاءت على لسان أحد كبار السن من أمثالنا أو أكبر قليلا قبل أيام ونحن نخوض غمار الانتخابات الرئاسية فى مصر، فى ظل عزوف ملحوظ لقطاع من الشباب الذين فضلوا المقاطعة بدعوى عدم الجدوى من الذهاب للجان التصويت طالما أن الأمر محسوم سلفا.
نحن جيل تربى وكبر على صوت الراديو فى البيوت والحارات الدافئة بمشاعر الطمانية والآمان، جيل استمد قيمه وتقاليده وخيالة الخصب من برامج الإذاعة المصرية الجميلة، وأصوات مقدمى البرامج أمثال (باباشارو - صفية المهندس - فاروق شوشة - أبلة فضيلة - آمال فهمى - فؤاد المهندس - رأفت فهيم - إيناس جوهر- على فايق زغلول- سعد الغزاوى وسميرة عبد العزيز- عمر بطيشة وغيرهم من الأساطين الذين عمروا أسماعنا بطيب الكلام، جيل تربى على كلمات الأغانى الجميلة والأصوات العذبة الندية التى تبعث على الأمل والحماس والتفاؤل، جيل تربى على البرامج الهادفة والأفكار القيمة، أيام أن كانت الإذاعة مؤسسة تربوية لايشوبها أى نوع من شراهة الحس التجارى الحالى.
لقد كنا فى السابق قبل اختراع "المحمول واللاب توب والآيباد" نظن أن قزقزة اللب أثناء عرض الفيلم هى أعلى مراتب قلة الذوق.. حدث ذلك فى الزمن الذى كان فيه من يهمس داخل السينما إلى من بجواره يشعر أنه يرتكب ذنباً كبيرا، واليوم أصبحنا نتحسر على تلك الأيام بعد أن أصبح الحديث فى المحمول أثناء عرض الفيلم تصرفاً عادياً يمارسه الأوغاد دون حرج أو إحساس بالذنب، أو أدنى احترام لخصوصية الآخرين فى التمتع بالمشاهدة.
صحيح أن الجيل ليس مجرد حواجز زمنية تفرق بين الأعمار، والاعتقاد بأن أخلاقيات وقيم الأبناء يجب أن تماثل ما كان لدى آبائهم، اعتقاد خاطئ شكلا ومضمونا، وذلك لأن التماثل يعنى توقف التاريخ وركوده، وهذا بالطبع يعد تفكير غير منطقي، ومن هنا تبقى المعرفة بسمات كل جيل هى وحدها الكفيلة بتصحيح مسارات كثيرة فى الإعلام والتربية والتعليم والتسويق والسياسة أيضا، إذ أن ما كان يقنع جيل الأجداد لم تكن له الصدقية ذاتها لدى جيل الآباء، وبالطبع لم تعد له أية أهمية لدى جيل الأبناء، ولذلك فإن الجيل الذى كان يحترم القواعد بلا نقاش خلفه جيل عمل على كسر تلك القواعد، ثم ظهر الجيل الذى غيرها تماما كما نلحظ حاليا من نماذج تضج بها مواقع التواصل غير الاجتماعى.
وهنالك ظاهرة ملفتة مؤادها أن جيل اليوم لا تخاطبه كثير من القوانين التى يخضع لها فى الجامعة والمدرسة والمؤسسة، ببساطة لأنها لا تعرف كيف يفكر وكيف تختلف توجهاته عن توجهات آبائه، إن الجد الذى كان يقنعه كل شيء فإذا غلب على أمره ردد لا حول ولا قوة إلا بالله، انتج جيلا آخر يريد أن يحصل على حقه كاملا غير منقوص تماما كما يرى الكثيرين يحصلون على هذه الحقوق، ويظل صارخا محتجا بكافة الوسائل غير الأخلاقية التى تعلمها للأسف من واقع افتراضى يعج بمواقع التواصل غير الاجتماعي، حتى يحصل على هذا الحق عنوة ودون أدنى مجهود يبذله غير لغة الصراخ والاحتجاج التى تصل إلى مستوى التبجح وقلة الأدب فى كثير من الأحوال.
ولأن الغرب يرصد تلك التغيرات غير المنطقية فى محاولة التوصل لعلاجها، فقد فوجئ طلاب مدرسة "ويلزلى" الثانوية بالولايات المتحدة بأن مدير المدرسة قرر أن يجعل موضوع خطابه فى حفل تخرجهم عن إنكار الذات، بدلاً من امتداح تميزهم، حيث قال لهم: "أنتم لستم متميزين، فالكوكب الذى تعيشون فيه ليس مركز المجموعة الشمسية، المجموعة الشمسية ليست مركز المجرة، المجرة ليست مركز الكون، الحقيقة أن الكون ليس له مركز، وبالتالى: أنتم لستم مركز الكون! وأضاف: "الحياة الناجحة المتحققة هى حياة الإنجاز، ليست شيئاً سيسقط فى حجرك لأنك شخص لطيف"، كلام هذا المربى الفاضل يدق على وتر مهم، يخاطب شعورا مبالغا بالذات لدى "جيل الألفية" وهو كلام بطبيعة الحال ليس بعيداً عن الواقع المصري، فى ظل تفشى ظاهرة من أدركتهم حرفة قلة الأدب.
إنهم جيل الألفية الذى ولد فى الثمانينيات، ذلك الجيل الذى تربى على تكنولوجيا التواصل الاجتماعى، ابن هذا الجيل ينظر فى هاتفه النقال كل خمس دقائق للاطمئنان على أنه تلقى علامة إعجاب جديدة على آخر تعليقاته على الفيس بوك، ومن ثم فهو يبدو جيل نرجسى، يشعر بأنه يستحق أفضل الفرص، يشعر "بالاستحقاق دوما وأبدا"، يشعر بأنه متميز بصورة حاسمة مقارنة بالأجيال السابقة، يجد صعوبة فى تقبل أى وجهات نظر مختلفة، ويدعى دوما أنه يمتلك الحقيقة المطلقة.
فى الواقع فإن جيل الألفية فى مصر لا يختلف كثيراً عن غيره، فهو جيل رباه جيل الستينيات والسبعينيات بكل ما عايشه من نكبات قومية وشخصية، تلك النكبات التى تركت فى الشخصية جروحا لا تندمل، فقد غرس الآباء فى الأبناء شعورا مرضياً بالنرجسية والتميز، كثيرون من أبناء هذا الجيل نشأوا فى كنف "بيوت نفطية" الآباء فى الخليج يضخون الأموال، الأبناء فى مدارس أجنبية تمنح قشور تعليم يتباهى بها الأهل، أو فى مدارس حكومية لا تمنح أى شىء سوى الشهادة.
الكارثة أن هذا الجيل نشأ فى مجتمع يخاصم السياسة، فلا توجد معركة كبرى يمكن أن تخلف هذا الشعور بالوطن الذى انحصر للأسف فى حفنة من أغنيات وطنية تُذاع بعد مباريات كرة القدم، وهذا لا يولد الشعور بالجماعة التى أصبحت معدومة، كما إنه جيل هجر بالضرورة مسلسلات "أسامة أنور عكاشة" ذات النكهة الستينية والسبعينية، وإذا نظرت بعين فاحصة ستجد أن قليلين ممن ينتمون لهذا الجيل تأثروا بمحاضرات "أبو العلا البشرى فى المسلسل الذى يحمل نفس الاسم.
قليلون جدا منهم فعلا هزتهم صرخة على الحجار فى نهاية المسلسل: "أنا يوم ما أعيش لنفسى.. ده يوم موتى الحقيقى".. تلك كانت الثقافة الستينية والسبعينية - بحلوها ومرها - والتى أصبحت الآن تتوارى بالتدريج أمام ثقافة الألفية، بعدما أصبح برامج المسابقات "ستار أكاديمى – ذا فويس – أراب أيدول" وغيرها هو حلم كل شاب وطفل يتطلع إلى الدنيا على جناح تقديس الشهرة، رغم أنها شهرة بلا أساس سوى أن تكون شخصية "لطيفة وجذابة" من حيث الشكل وليس المضمون.
ربما يبدو هذا الجيل مظلوم، عندما تُرك معلقاً فى الهواء مع توقعات وآمال وطموحات كبيرة مقابل إمكانيات متواضعة للغاية، وكان طبيعياً جدا أن يصبح هذا الجيل هو المحرك الأول لانتفاضة يناير، لقد كان اللواء عمر سليمان - رحمه الله - محقا حين أطلق عليها فى البداية "ثورة الشباب"، نعم إنها انتفاضة حركتها عوامل الديموغرافيا قبل أى شىء آخر: فطبقا للإحصاءات فإن 54% من سكان مصر تقل أعمارهم عن 24 عاماً ، وهناك 24 مليوناً تتراوح أعمارهم بين 15 و29 (سن حرجة حيث ليس لدى المرء غالباً الكثير ليخسره)، ولعل الرقم الأخطر هو أن 87% ممن يعانون البطالة فى مصر هم بين سن 15 و29، البطالة بين حملة المؤهلات الجامعية عشرة أضعاف مثيلتها بين الفئات الأخرى ، هذه الكتلة الرهيبة من الشباب العاطل ، أو الذى يعمل فى أعمال أقل من تلك التى يستحقها - من وجهة نظره - تحركت لتسقط المنظومة السياسية كلها ، إذن العامل الديموغرافى كان حاسما، ومن ثم امتلأت ميادين القاهرة بمئات الآلاف من الشباب والمراهقين لا يمكن لأى جهاز أمنى مواجهة تحد مثل هذا.
ومن هنا فإنه فى مصر تحديدا، تصدر هذا الجيل المشهد لشهور بعد انتفاضة 2011، ولقد تبين من تحليلنا لتلك الظاهرة الشبابية الجديدة أنهم لايملكون سوى القليل الذى يستطيعون تقديمه لدفع المجتمع للأمام ، وفى نفس الوقت ظهر أن لديهم الكثير من الثقة بالذات بلا أساس ، حتى إنه صار واضحاً للعيان أن معرفتهم بمجتمعهم محدودة للغاية، كما انعكس فى أقوالهم، حيث يبدو فى أغلبه "معلب" أو "مكرر"، ومع ذلك فقد تحدوا "مؤسسة الدولة" دون تقديم بديل، وللأسف الشديد مهدوا الطريق بوعيهم الفطرى "الطاهر" لحكم التيار الدينى، وفى النهاية أصبح أبناء هذا الجيل جناة وضحايا فى ذات الوقت.
كل ما مضى يمكن احتماله لكن الذى لا نقوى على احتماله من أبناء هذا الجيل الذى أدركته حرفة قلة الأدب ، هى تلك الكلمات الخارجة والحوارات الغريبة والعجيبة بلغة مايسمى بالـ "فرانكو آراب" ، فلم أصدق أذنى عندما سمعتها أثناء انتظارى لابنتى أمام مدرستها من شلة أولاد وبنات من باب "الهزار" والمفترض أنهم "ولاد ناس جدا" وتعليم أجنبى وأبناء لوسط راقٍ، فهم أبناء لأساتذة بالجامعة أو أطباء أو مهندسين أو شخصيات محترمة ، لم تكن هذه المرة هى الوحيدة من نوعها فقد فوجئت بابنتى تسألنى عن معانى بعض الألفاظ البذيئة التى قد لا أعلم معنى بعضها وبعضها أعلم أنها من باب الشتيمة التى لا نسمعها إلا من شريحة معينة نصفها "بالسوقية"، وهى عادة ما تأتى على لسان من نطلق على كلامهم "كلام الشوارع" كالذى نسمعه فى خناقة بين سائقى ميكروباص أو فى منطقة شعبية جدا.
والسؤال الذى يبدو منطقيا الآن هل مثل تلك الظواهر من امتهان صارخ لحرفة قلة الأدب تعد بمثابة التطور الطبيعى للانفتاح الذى نعيشه على العالم باختلاف ثقافاته وعاداته؟ أم هى نتاج ما حمله لنا الواقع الافتراضى الذى دخل بيوتنا دون استئذان ودون سابق إنذار، فمسح الحياء والعيب والغلط؟، أم أنها جزء من حالة الانفلات اللانهائى على كل الأصعدة الأخلاقية والأمنية والاجتماعية والاقتصادية والنفسية؟ أم هى موضة جديدة وتطور للغة الحوار بين أجيال جديدة لم تعد تؤمن بالعيب والممنوع؟، ثم أخيرا وليس آخرا: هل هو نتيجة دراما العشوائيات وخناقات "التوك شو" التى تحوى مشاهد غريبة كخلع الحذاء؟ أم كل هذا جزء لا يتجزأ من حالة انهيار الأخلاق والتقاليد وحضارة الماضى والطابع المتحفظ الوسطى الذى كان يميز المصريين طوال تاريخهم؟
أيا كانت الأسباب والنتائج ، فإن الأمر يستلزم مواجهة هذا الجيل لتحديات المستقبل ، وذلك يتطلب تغييراً جوهرياً فى منظوره للأشياء ، كما يتطلب الكثير من التواضع والقليل من حب الظهور، وعلى أبناء هذا الجيل أن ينظروا بعين الاعتبار أكثر لما يفتقرون إليه، بدلاً بالتفاخر بما يميزهم، وعليهم أن يصنعوا جسور اتصال أوثق بالمجتمع وتجربته الممتدة، مصداقا لقول المربى الأمريكى الفاضل لطلابه فى ختام محاضرته القيمة: "تسلق قمة الجبل لترى العالم، لا لكى تجعل العالم يراك".