لعبة الحوت الأزرق، واحدة من الألعاب التكنولوجية المميتة، لعبة مهمتها السيطرة والاستحواذ على عقول مستخدميها وتوجيههم من خلال مرشد اللعبة إلى مصائرهم فى نوع من التحدى والاستسلام معا بحسب قانون يقبل به اللاعبون.
واللاعبون فى الغالب هم من الأطفال بين الثانية عشرة والثامنة عشرة من العمر، يمرون بخمسين خطوة حتى يصلوا إلى المرحلة النهائية من اللعبة، والبداية بتنزيل تطبيق اللعبة على الموبايل أو الكمبيوتر ثم نقش رمز اللعبة وهى الحوت الأزرق بالسكين أو المطواة على الجسد وإرسال صورتها لقائد اللعبة المتحكم فى التطبيق، وبعدها تبدأ الطلبات الغريبة من المشاركين، بدءا بالمواقف المحرجة والصور العارية والاستيقاظ فى أوقات معينة من الليل ومشاهدة أفلام الرعب وسماع نوعيات محددة من الموسيقى، التى تضع مستمعيها فى حالات حزن وكآبة، بالإضافة إلى التفاصيل الشخصية حتى يتسنى للمشاركين خوض التحدى والاستمرار فى اللعبة.
وكلما قبل المشارك أو اللاعب بما يطلب منه فى مرحلة يجد طلبات أشد وطأة ولا يستطيع رفضها لأنه لا يملك الانسحاب أو التراجع، لأن ما قدمه لقائد اللعبة من معلومات وصور يصبح سيفًا على رقبته وتهديدًا دائمًا له، لا يملك مع الطفل أو المراهق إلا الانصياع.
فى المراحل الأخيرة من اللعبة تأتى الأوامر بارتكاب جريمة القتل، قد تكون أمرًا بقتل أحد الأصدقاء أو أحد الجيران أو أحد الأقارب، وقد يكون الأمر بقتل النفس أو الانتحار بوسيلة محددة مثل القفز من النافذة أو الشنق أو تناول السم، وفى جميع الأحوال على اللاعب أن ينفذ الأمر فى مدى زمنى محدد، وإلا يتم فضحه ونشر جميع المعلومات الشخصية والصور الخاصة به.
وما بين لعبة الحوت الأزرق ورواية الحوت الأبيض «موبى ديك» لهيرمان ميلفيل ثلاثون سنة من التغييرات والتحولات التى طالت التعليم والثقافة والخيال والذوق العام وطريقة التربية، فعلى أيامنا، كانت الثقافة والخيال إحدى ثمار القراءة والتعليم والتعلّم الذاتى، كما كانت الشخصية المثقفة تبنى نفسها تدريجيا ووفق المراحل السنية بالاطلاع فى جميع المجالات، مع التركيز على المجال الأحب أو الأقرب إلى الذات، ولذا كانت رواية ميلفيل «الحوت الأبيض»، التى تحولت إلى فيلم شهير من بطولة الفنان العظيم جريجورى بيك ومن إخراج جون هيوستن، واحدة من العلامات التى شكلت وجداننا وبنت رؤيتنا الفلسفية تجاه العالم ووضعت اللبنات الأولى للقيم الأساسية التى ننطلق منها.
«ميلفيل» فى روايته «الحوت الأبيض» أو «موبى ديك»، كان رومانسيًا يتأسى على المصير الإنسانى عندما يبتعد عن الفطرة السليمة ويسعى إلى الانتقام، فلا يحصد إلا الموت والفناء، فالكابتن «آهاب» بطل الرواية والذى يمتهن صيد الحيتان، يتعرض فى إحدى الرحلات إلى حوت أبيض كبير يلتهم ساقه ويهرب، وبدلا من أن يتحول الأمر إلى حادثة عادية تتكرر بين صيادى الحيتان، يصبح الأمر ثأرا شخصيا بين الحوت الأبيض والكابتن آهاب، الذى يجوب البحار ليس لممارسة الصيد ولكن للانتقام، وفى النهاية يحطم موبى ديك سفينته ويقضى على طاقمه باستثناء الراوى إسماعيل الذى ينجو ليحكى لنا تفاصيل الرواية الرمزية.
تعلمنا كثيرا من موبى ديك، ذلك الصراع الوجودى بين الإنسان ومصيره، بين الإنسان والقوانين الأساسية للوجود، وكيف يضبط الفرد بوصلة الصراع فلا ينحرف بها إلى هلاك نفسه أو إهلاك الآخرين، لكن هذا المعنى يغيب تماما عن اللعبة الجديدة الأكثر انتشارا بين الأجيال الجديدة عن رواية ميلفيل، فمصممها الروسى فيليب بوديكين يعتبرها وسيلة لتطهير الأرض، مما أسماه النفايات البيولوجية، فى استعادة منحرفة للفكر النازى الذى يقوم على تصنيف البشر إلى أقوياء وضعفاء ويحكم على الضعفاء بالموت والزوال..
ما أحوجنا الآن إلى تلك الدفاعات الثقافية والتعليمية والتربوية التى تحفظ على الأجيال الجديدة توازنها وتعبر بهم الاختبارات النفسية التى تفرضها عليهم الأدوات التكنولوجية الجديدة.