فى مصر قاموس «منحط» من الأمثال «الرخيصة» التى أفرزتها ظروف اجتماعية بائسة، وأوضاع اقتصادية كارثية، وللأسف فإنه من حين لآخر يظهر فى المجتمع ما يؤكد توغل هذه الأمثال فى الوجدان الشعبى، ووصول مضمون هذه الأمثال إلى فئات المجتمع كافة، ومن هذه الأمثال «المنحطة» مثل يقول «إن بيت أبوك وقع هات منه قالب»، فى تحريض مباشر وصريح بأن يستفيد الواحد من أى شىء حتى لو كان هذا الشىء هو خراب البيوت وتهدمها، ودون وضع أى شىء آخر فى الحسبان سوى المصلحة، وليس الذكريات ولا التاريخ ولا الخراب الذى حل بأهلك.
هذا المثل للأسف هو ما ينطبق تمامًا على فئة ضالة من أبناء الشعب المصرى الذين يعكفون ليل نهار على سب كل شىء، والحط من قيمة كل شىء، وتسفيه كل شىء، فكل شىء بالنسبة لهم مثل أى شىء، يتساوى فى هذا «أمن مصر القومى» مع سيدة ربطت ابنها فى يدها لكى لا يتوه عنها.. حالة «مرضية» من ادعاء المثالية والفهم والاحترافية واستباحة التنكيل بأى شىء، أو التمثيل بجثة أى فرد، لا ندرى أننا بهذا نفقد «النقد» معناه قبل أن نفقد الدولة ثقلها وتماسكها، ونؤدى دور الأعداء بالوكالة عن أعدائنا الحقيقيين، فيتحول الوطن إلى حلبة صراع، وتتحول الأنفس إلى خرابات لا يسكنها إلا المنبوذون من أى فضيلة.
نحن هاجمنا فئة الإعلاميين الذين ينتقدون من دون منهج، ويبنون الأكاذيب واحدة بعد واحدة حتى صرنا نعيش فى ناطحات سحاب من الأكاذيب، لكن على ما يبدو فإن العيب لم يكن فى إعلاميى الفضائح، ولا فى حالة استثمار الجهل وتنميته، والتى تفشت فى المجتمع، إنما فى «ثقافة الانتهاب والتوحش» التى أشار إليها ابن خلدون فى مقدمته حينما قال «إن العرب لا يتغلبون إلا على البسائط، أى الأمور البسيطة، وذلك أنهم بطبيعة التوحش الذى فيهم أهل انتهاب وعيث»، فيقعد الواحد منا على كرسيه معينًا من نفسه حكمًا ومعيارًا ومشرعًا، يسب هذا، ويهاجم هذا، وينكل بهذا، ويمثل بجثة هذا، فإن أعلنت الدولة عن بناء عاصمة جديدة هاجمها، وإن أعلنت عن مشروع جديد سفه منه، وإن اقترح أحد حلًا لمشكلة نقص الدولار سخر منه، وإن اتخذت الدولة إجراء ضروريًا كزيادة الجمارك على السلع الترفيهية لعنها، وكأن «الكاجو» هو الوجبة الرئيسية الأولى للمصريين، وإن جنحت سفينة فى قناة السويس مثلما تجنح عشرات السفن كل يوم فى جميع قنوات العالم تناقلوا الخبر محرفين إياه، ومدعين أن القناة أغلقت، وأن مشروع تطوير القناة فشل، وهكذا فى كل شىء دون حتى أن يتقدم أحد بنقد حقيقى أو طرح حل أو بديل للوضع الذى يرونه كارثيًا، ودون أن يضعوا فى حسبانهم أن مشكلة مصر الحقيقية أن انهيار التعليم أدى إلى انهيار فى كل شىء، وأن علينا أن نتكاتف من أجل أن ننهض بمصر، لا أن نتكالب على الظفر بـ «قالب» من الوطن المهدم.