أطفال الفرات

بيت صغير مازال قائماً وسط كومات من بقايا حياة.. كانت بالأمس تتنفس!! والسماء الزرقاء لم تعد زرقاء.. فقط أنفاس طفل كل ما تبقى من بيت عائلة فقيرة تسكن إحدى القرى على الحدود العراقية.. يتحسس حسين بيديه الصغيرتين الطريق خارج مخبئه الذى صنعه هربًا من أعين عدو يتربص بشعبه وبلده وأرضه.. منذ أيام قالت أمه «سيدكون بغداد» لن يكن لنا بيت ولا مأوى.. وبالأمس ذرفت أم حسين كل دموعها حتى لم تعد تملك حتى الدموع!! أغمضت عينيها وحاولت النوم كغيرها من أهالى الناصرية لكن أنفاسها ما زالت يقظة تتلصص رائحة الموت فى أى لحظة.. ارتعد حسين لكنه حاول أن يبدو متماسكًا وسط خوف أمه وكلماتها التى لا تفارق أذنيه وحضنها الذى نقل إلى خلايا الدفء «يا حسين كن رجلا.. لقد استشهد أبوك فى الحرب فالموت شرف لكل الرجال «إنه لا يفقه كلماتها يراها ضخمة فى ضخامة الجبال عميقة عمق الحزن الذى يملأ القلوب».. نام بين ذراعيها فلم يشعر بالوقت قد مر وعندما فتح عينيه وجد نفسه غارقًا فى ظلمة ليس لها قرار!! فتذكر أنه يحتمى بمخبئه الصغير فى خيمة نصبها تحت السرير الذى يأوى عائلته السرير هو الأثاث الوحيد المتبقى من علامات الرخاء الأسرى فى الزمن الجميل.. ذلك الزمن الذى لم تبصره عيناه منذ جاء إلى العالم باكيه كبقية الأطفال الذين يخرجون من عالم محدود ملىء بالراحة إلى عالم ممدود لا يسلم من الأخطار يغمض عينيه ويفتحها بقوة فالرؤية تكاد تكون معدومة ودخان كثيف يتصاعد من كل مكان يحيط به يصرخ صرخات متلاحقة أمى أين أنت؟.. أستحلفك بالله أجيبى؟ فيرتد صوته المتشنج بالبكاء إلى أنفاسه لاهثًا بلا مجيب ينادى أخوته.. زيد، غسان، لؤى.. أين أنتم؟ لماذا ذهبتم وتركتمونى وحيدا؟ يتسلل الدخان إلى أنفه.. يهاجم أنفاسه البريئة.. يلاحق نبضات قلبه، يحاول منعه من استنشاق هواء نقى، لقد تحول الدخان أيضًا إلى عدو يتربص بطفولته تحمله قدماه الصغيرتان إلى رؤية مشهد تعجز عيناه عن تفسيره.. إنه لا يرى سوى رماد يختلط ببقايا أسرته.. تحمله رياح سوداء تفتح فمها تلتهم كل شىء ينبض بالحياة.. يختبئ من هذه الرياح تطارده.. لكنه يصمد أمام جبروتها ويتذكر كلمات أمه تحثه على الصمود تحاول أن تزعزعه من مكانه تطيحه أرضًا.. لكنه ينهض ينفض غبارها متحديا صوتها الموحش، رغم أن نور الصباح قد أشرق على مدينته إلا أن العدو أراد أن يعزل نور الشمس عنهم.. وبقلب رجل استجمع حسين شجاعته التى حاولت مشاهد الدمار تبخيرها يحمل بندقية والده كل ذخيرته فى مخبئه السرى يمسح عنها ترابها الذى طمس ملامحها.. يتحسس طريقة عبر مئات الجثث والبيوت المنهارة فإذا به يجد جيشا من الأطفال الصغار ينضمون إليه.. كلهم يريدون الثأر.!! يحملون بنادقهم الصغيرة غير المعبأة بالبارود ولكنها تمنحهم قوة بلا حدود.. إنهم كل ما تبقى من قريتهم شبكوا أيديهم بإصرار كأنهم يستمدون تلك القوة الخفية التى تخلقها يد الجماعة.. يسيرون فى حذر خوفًا من قنابل تمطرها قاذفات العدو وملاذهم الوحيد ذلك الستار الدخانى الذى يتصاعد من كل شبر فى مدينتهم، لكن حسين هز أحد أتباعه الصغار وصاح بشدة انظر إلى السماء: على: أين.. نعم إنها سحابة دخان حسى: لا إنها شىء آخر يسد الأفق. على يفرك عينيه بقوة حتى يستطيع الرؤية: نعم إنه نسر كبير يفرد جناحيه عن آخرهما.. حسين إنه يقترب اختبئوا بسرعة ويبحث جيش الأطفال عن مكان يحتمون فيه.. لا يجدون سوى حطام منازلهم وجثث شهدائهم تسمروا فى أماكنهم وأفواههم مفتوحة لا يرجون جوابًا.. فإذا بأسراب كثيرة من الطير تمر من فوق رؤوسهم تلامس خصلات شعرهم المترب برفق وتغيب عن أعينهم فى سلام. ينظر حسين إلى أسراب الطيور بشغف وإعجاب ملتقطًا أنفاسه التى حبسها حتى مرت من فوق رأسه.. وقتها تمنى أن تجد هذه الطيور هدفها الذى تجمعن من أجله.. فالأعداء على بعد بضع خطوات يستعدون لدك مدينة مرة أخرى من الوطن!! ولمعت فى عين حسين فكرة أعتقد أنها شديدة العبقرية وربما تشفى غليله وتعطى له الشعور بالتفاؤل، فالغريق يحتاج إلى القشة التى تنقذه من غرق محقق، ودعا أصدقاءه إلى ملاحقة هذه الطيور لكى يعرف مقصدها وغايتها وهو يكتم أمنيته داخل صدره.. هو لا ينسى قصة حكتها له والدته فى يوم من الأيام.. ليت حكاية أمى تحققها الطيور!! يراقب حسين بعين تكاد تلتصق بأرجل هذه النسور الكبيرة يرفرف قلبه رفرفة الأحرار، ترتفع ابتسامته لتضىء جبهته نور يزيح غبار الظلم تتلاقى عيناه البريئتان مع عيون أحد الطيور فيتذكر كلمات أمه المتفائلة فى أحد أيام الفرحة وهى قليلة يصحو حسين على هزات أحد افراد جيشه... حسين... حسين... لقد رحلت النسور انظر إلى السماء إنها تختفى وراء السحاب تترك خلفها غمامة بيضاء كبيرة تحرس رؤوس أطفال الناصرية تظللهم بظلل ربانية تأمل حسين السماء... إنه يرى سماء بلاده يطير قلبه مع أجنحة هذه الطيور... إنها لا تترك فضاء مدينتى إلا نقيا.. يا إلهى إننى أرى زرقة السماء أشم رائحة نهر الفرات... تخترق مسامى نسمات صباح جديد وكأن مدينتى عادت. صبية.. لم تنتهك بعد!!



الاكثر مشاهده

"لمار" تصدر منتجاتها الى 28 دولة

شركة » كود للتطوير» تطرح «North Code» أول مشروعاتها في الساحل الشمالى باستثمارات 2 مليار جنيه

الرئيس السيسى يهنئ نادى الزمالك على كأس الكونفدرالية.. ويؤكد: أداء مميز وجهود رائعة

رئيس وزراء اليونان يستقبل الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي محمد العيسى

جامعة "مالايا" تمنح د.العيسى درجة الدكتوراه الفخرية في العلوم السياسية

الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي يدشّن "مجلس علماء آسْيان"

;