اعتدنا كمصريين أن تقوم قائمتنا مع الكوارث لأيام لا تتجاوز الأسبوع، إذا زادت، لنلامس بعدها الواقع من جديد، دون أى تغيير، وننام ولا نصحو إلا مع كارثة جديدة، فى قطاع آخر، وربما فى القطاع ذاته، ونتعامل مع الأمر بنفس الآلية، وكأنه يحدث لأول مرة، وقد عظمت «السوشيال ميديا» من الأمر مع اختلاف جديد، هو مساهمتها فى كشف العورات الكامنة فى المجتمع، والمتوارثة منذ عقود طويلة، ونشر أبعاد جديدة للكوارث لم يكن يتاح لأحد رؤيتها من قبل، فكل إنسان الآن لديه «محمول» يوثق به ما يحدث بالصور والفيديوهات، ويتيحه للجميع على وسائط التواصل الاجتماعى.
يحدث هذا الأمر باحترافية مصرية فى كوارث القطارات المتكررة، وفى غرق المراكب المخالفة سنويًا، وفى السيول الجارفة التى تكمن وتختفى لسنوات وكأنها تغافل المصريين عمدًا، ثم تأتى لتجرف ما يقف فى طريقها، وتكشف الطرق والمبانى المخالفة، ومع كل ذلك تكشف الأوضاع على حقيقتها.
لا يخرج غرق القاهرة الجديدة، مدينة المليارات، التى يقل عمر أغلب مبانيها عن عشرة أعوام، عن نفس الأمر، حيث جاءت الأمطار الرعدية غزيرة كثيفة على غير العادة لتكشف عورات البنية الأساسية فى هذه المدينة الجديدة، وتكشف كيف أننا توارثنا الخطأ، ورضعناه مع حليب أمهاتنا، وأن أكبر المسؤولين فى هذا البلد ينامون قريرى العيون، رغم أنهم يخلون بواجباتهم ويضيعون الأمانة التى ولاهم الله عليها.. يكفى أن أذكركم أن القاهرة الباريسية «وسط البلد» أنشئت ولها شبكة صرف صحى، وأخرى للأمطار، والقاهرة الجديدة التى أنشأها البارون إمبان التى يتجاوزر عمرها 150 عامًا لم تغرق مثل القاهرة التى عمرها لا يتجاوز ربع قرن بالكامل.
تقرير الرقابة الإدارية جاء كاشفًا لعورات عدة محافظات، وواضعًا النقاط فوق الحروف، وكان بمثابة تشخيص الجراح الذى يجنح دائمًا إلى أن أفضل علاج للعضو الذى أصيب بـ«الغرغرينا» هو بتره، حتى لا تمتد إلى بقية أجزاء الجسم، ويموت كله.
التقرير كشف وبكل وضوح غياب التنسيق بين وزارات الإسكان والكهرباء والنقل ومحافظة القاهرة، للاستفادة من قدرات كل منها، وإمكاناتها لتلافى الآثار التى نجمت عن الأمطار الرعدية التى ضربت المنطقة، إضافة إلى غياب الحرفية والمهنية فى إدارة الأزمة، حسب نص بيان الرقابة الإدارية، وأوضحت «الرقابة الإدارية» فى نص بيانها أن الفحص والمعاينة والتحرى أظهرت أن هطول الأمطار بكثافة فاقت القدرة الاستيعابية لمحطات الرفع أدى إلى ارتفاع منسوب المياه بعدد من محطات الرفع، وهو ما تسبب فى ارتدادها وإحداث تجمعات مائية كبيرة أخذت طريقها لمحطة محولات كهرباء الحى الرابع بالقاهرة الجديدة، فانقطع التيار الكهربى، وتوقفت معه بعض محطات الرفع بالمدينة لفترات طويلة تصل لعدة ساعات، وأسفرت عن خلل جسيم بنظام الصرف فى القاهرة الجديدة برمتها.
الجهة الرسمية الوحيدة التى نجت من الغرق فى فضيحة القاهرة الجديدة هى الأرصاد الجوية، التى صدرت عنها تحذيرات وتنويهات واضحة وصريحة لجميع الجهات بالدولة بقرب تعرض البلاد لرياح شديدة يصاحبها سقوط أمطار تصل للسيول فى بعض المناطق.. بيان الأرصاد هو الآخر دليل إدانة للجهاز الحكومى الرسمى برمته.
بعد الفشل الواضح والمتكرر للجهاز الحكومى فى مواجهة الكوارث، لم يكن أمام الرئيس عبدالفتاح السيسى خيار إلا بتكليف جهاز الرقابة الإدارية، الذى أصبح فى ظل الوزير «عرفان»، بيت الخبرة المصرى الذى يأتمنه كل المصريين على تحديد المسؤولية فى الأمور الشائكة المتداخلة.
وكان القرار بإحالة الملف للنيابة العامة، وإقالة عدد من مسؤولى المجتمعات العمرانية «الجديدة».
تذكروا معى فضيحة غرق الإسكندرية فى أكتوبر 2015، وتحولها فى أعقاب موجة أمطار رعدية إلى بركة كبيرة اختلطت فيها مياه البحر بمياه المجارى بمياه الأمطار.. كانت كارثة كشفت هى الأخرى عن فضيحة البناء المخالف والعشوائى الذى حوّل عروس البحر المتوسط إلى عجوز شمطاء تكاد تموت، من كثرة الأمراض.
ماذا يفعل السيسى تجاه كل هذا التراخى والتسيب، واللامسؤولية المتوارثة فى الجهاز الرسمى الحكومى؟
رب ضارة نافعة، والسيسى فى منهاج عمله يرفض علاج المسكنات، ظهر هذا جليًا فى كل المشكلات التى تصدى لها.
كان الرئيس عبدالفتاح السيسى أكد على حسابه على «تويتر» أنه يتفهم تمامًا حالة المعاناة التى ألمت ببعض المصريين نتيجة الآثار الناجمة عن تساقط الأمطار بشكل مفاجئ وغير معتاد عليه، مشددًا على أن الدولة بجميع أجهزتها ستكثف من جهودها لتلافى حدوث مثل هذه الآثار مرة أخرى.
انتظروا قاهرة جديدة بجد، أنا أثق فى السيسى وفى أسلوب تعامله مع كوارثنا المتوارثة، يرفض العلاج بالمسكنات، البداية كانت بتحديد الأسباب، والجهات المسؤولة، وهذا تم فى تقرير الرقابة الإدارية، والآن بدأت التكليفات، ليس على مستوى «القاهرة الجديدة» فقط، ولكن على مستوى مصر كلها.