مصحوبا بالصدمة الكبرى، والحزن وخيبة الأمل والرجاء، أكتب عن الفنان القدير "محيى إسماعيل"، الذى انهمر فى البكاء على الهواء فى أحد البرامج التليفزيونية قبل يومين، بفيض من مشاعر صادقة، وذلك أثناء مشاهدته جزءًا من فيلم "الأخوة الأعداء" الذى قام ببطولته مع كل من الفنانين نور الشريف وحسين فهمى، وقال "محيى" فى حواره التليفزيونى: "أنا بتأثر لما بشوف المشاهد دى، أنا العالم كله بيكرمنى وبيعرفنى وبيقدرنى، لكن هنا أنا زعلان، لأن بلدى دى بلد المعرفة والحضارة والفن"، وتابع: "الفن أمن قومى والرئيس لازم يتدخل وينقذ مصر من الفن الهابط ده، دى قمة الوطنية، وأرجوكوا متشيلوش الكلام ده".
وقد جاء حواره هذا بنبرة حزينة على غير عادته، بل تعبر تلك النبرة عن حالة إحباط انتابته خلال الأيام القليلة الماضية على ما يبدو، جراء التجاهل التام لموهبته التى يمكن أن توظف دراميا بشكل يليق بها، بحيث تحفظ له ماء الوجه فى ظل صناعة الدراما الثقيلة هذه الأيام، لقد شعرت بالأسى والحزن الشديدين جراء قلة حيلة هذا الفنان الفيلسوف، الذى كان يصعب أن تحاوره فى لقاء تليفزيونى على الهواء مباشرة، فقد كانت تلك مخاطرة كبيرة لا يقدر على خوضها سوى القليلين من زملائه الفنانين الذين يعرفونه عن قرب، وبعض الإعلاميين المشهورين، ممن لهم حنكة وخبرة كبيرة فى دراسة شخصيته المركبة إلى حد التعقيد، فهو شخص يصعب السيطرة عليه، كما يصعب التنبؤ بردود أفعاله على الأسئلة الموجهة له، ولأنه درس الفلسفة فى بداية حياته فقد أكسبته ثقافة إلى حد عميق، لذا يرى أن الحياة مجرد "عبث"، ولعل ذلك المعتقد الراسخ فى وجدانه تجده واضحا عليه فى كل مقابلاته الإعلامية والصحفية على حد سواء.
إنه الفنان من الوزن الثقيل نفسه الذى كان إلى وقت قريب يتحدث دوما بلا مناسبة، ويأخذك فى حوار شيق وعميق يمينا ويسارا فتظن أنه ابتعد عن الإجابة عن سؤالك السابق، لكنك فى الواقع ستجده يلقى إجاباته من بين السطور فى صورة رموز وإشارات ذات دلالات خاصة فتبدو أمامك مجرد طلاسم لا تحل، ليبقى فى النهاية تركيبة إنسانية غريبة يصعب فهمها فنيا ونفسيا واجتماعيا أيضا، فهو صريح جرىء لا يخشى من أحد، لديه حضور طاغ واثق من نفسه إلى حد اتهامه بالغرور، مؤمن بأنه فنان خسره من لم يتعامل معه، وربما لكل تلك الأسباب وغيرها لم يلقَ رواجا إعلاميا وفنيا فى مصر بالقدر الذى يليق بموهبته وذكائه الحاد الذى يفضى إلى الجنون، كما يظن بعضا ممن لا يدركون حقيقته الفطرية البسيطة، ومع ذلك فقد وجد التقدير الكامل فى أوروبا وأمريكا، حتى أن جامعة "كونكورديا" الأمريكية أطلقت عليه لقب "رائد السيكودراما" على مستوى العالم.
اسمه بالكامل "محيى الدين محمد إسماعيل"، ولد فى 8 نوفمبر 1946، بمدينة كفر الدوار، التابعة لمحافظة البحيرة، نشأ فى أسرة مصرية بسيطة، فوالده كان أحد كبار رجال التربية والتعليم بالمحافظة، ويحمل شهادة العالمية مع إجازة التدريس، بينما والدته كانت ابنة عمدة القرية، ولديه من الأشقاء خمسة أولاد، وثلاث بنات، ويجدر بالذكر هنا إنه تخرج فى كلية الآداب، قسم الفلسفة، ثم التحق بقسم التمثيل فى المعهد العالى للفنون المسرحية، وعمل لفترة فى المسرح القومي، وهو مؤسس مسرح المائة كرسى التجريبى بالمركز الثقافى التشيكى بالقاهرة عام 1969.
جاء إلى القاهرة من كفر الدوار فى السبعينيات، وله 3 أشقاء كلهم نالوا قدرًا من الشهرة والنجومية مثله، اثنان منهم كانت شهرتهما فى المجال الفنى، الأول "فايق إسماعيل"، وهو الشقيق الأكبر الذى هو بالنسبة لمحيى إسماعيل القدوة والمثل الأعلى، وفايق إسماعيل واحد من مخرجى الجيل الأول فى التليفزيون وعلى يده ويد جيله ومنهم المخرج الكبير نور الدمرداش صيغت أسس الدراما التليفزيونية المصرية، والشقيق الثانى الدكتور كمال إسماعيل وهو أستاذ فى الأدب والدراسات اللغوية العربية عمل لسنوات فى التدريس بجامعات دول المغرب العربى، وتحديداً بالجزائر، أما الشقيق الثالث هو الكاتب المسرحى المعروف بهيج إسماعيل.
قدم "إسماعيل" العديد من المسرحيات، مثل: "الليلة السوداء، سليمان الحلبى، دائرة الطباشير القوقازية"، وفى السينما بدأ حياته بعدد من الأدوار الصغيرة، فتم اختياره للمشاركة فى فيلم إيطالى، ليقدم دور ضابط انتحارى، مقابل أجر قدره 40 جنيها، لكن المخرج خصم نصف أجره نظرا لتمرده على تعليمات المخرج، حيث قام بحلاقة شعره تماما مما أفسد "الراكور" وقتها، ولأن عشقه الأساسى هو الفلسفة، فقد تخصص فى أداء الشخصيات التى يعانى أصحابها من مشاكل نفسية، وقد برع فى أدائها بجدارة فى عدد من الأفلام السينمائية أشهرها "الأخوة الأعداء"، الذى جسد فيه شخصية شاب مصاب بالصرع، لدرجة أن الرئيس الراحل أنور السادات حينما شاهد الفيلم اقتنع بأن "محيى" مصاب بالصرع وأمر بعلاجه على نفقة الدولة، ثم التقى الرئيس الراحل أنور السادات فى مناسبة بعد ذلك وأخبره أنه ليس مصابا بالصرع، وبالرغم من عدم اقتناع "السادات" بذلك، إلا أنه سأله عن سبب لقائه، فطلب منه "محيى" شقة لأنه لا يملك شقة، وبالفعل حصل عليها لكن دون أثاث، ولم يتمكن من فرشها، فكان ينام داخل "الدولاب"، على حد قوله فى أحد البرامج التليفزيونية.
لقد كانت العلامة الفارقة فى مشوار محيى إسماعيل هى شخصية "حمزة ابن عزيزة الهبلة" تلك الشخصية التى اختارها له المخرج حسام الدين مصطفى فى فيلم "الأخوة الأعداء" - هذا الفيلم بقى فى دور العرض 49 أسبوعًا محققاً رقمًا قياسيًا لم يسبق ولم يتكرر - ولعلها مثلت دورًا فارقًا فى حياة محيى الفنية لسببين، الأول لأن محيى إسماعيل نال عن هذا الدور جائزة شهدت بتفوقه على 11 نجمًا كبيرًا كانوا معه فى الفيلم، على حسب وصفه، وكان هذا النجاح المدوى له فى فيلم الأخوة الأعداء سبباً فى انفجار بركان حقد مدو أيضاً أجلسه فى البيت 3 سنوات بلا عمل، وتعلم بعده "محيى إسماعيل" أن ليس كل نجاح كبير جالبا للحظ السعيد، أما السبب الثانى الذى جعل دور "حمزة" فارق فى حياة محيى إسماعيل الفنية أن هذا الدور أوقع محيى إسماعيل فى عشق الأدوار المعقدة، والشخصية المعقدة مختلفة عن الشخصية المركبة، والملحوظة هنا للنجم محيى إسماعيل الذى يوضحها فيقول لى فى إحدى الجلسات: الشخصية المعقدة شخصية مريضة بعقدة تديرها وتتحكم فى سيرتها طوال الوقت، وإجادتها تستلزم الإلمام بالسمات الخارجية والداخلية لهذه الشخصية المريضة بشكل علمى، أما الشخصية المركبة فهى شخصية تبدأ سوية ثم تصاب بعقدة وقد تعود سوية أو تتطور الحالة عندها!
فى أول فيلم عن حرب أكتوبر المجيد تحت عنوان "الرصاصة لا تزال فى جيبى"، عام 1974، جسد "محى إسماعيل شخصية الضابط الإسرائيلى "عساف ياجورى"، وأثناء حضوره العرض الخاص للفيلم، أخبره مدير الصالة يبدو مستفزا جدا فى هذا الدور، وذلك لأن هناك مشهدا دمويا يقتل فيه "ياجوري" عددا من المصريين بالرصاص، ومن ثم أنه سيفتح له بابا جانبيا للهروب فور انتهاء العرض، خوفا من رد فعل الجمهور الذى استنكر أفعاله فى أثناء تأدية دوره، وتفاديا لأن يضربه الجمهور قرر الهروب من الباب الجانبى قبل نهاية العرض.
على الرغم من أنه ابتعد لسنوات عن التمثيل برغبته أحيانا وعلى عكس هواه فى أحايين كثيرة، إلا أنه لم ينساه الجمهور، ولم ينس أدواره النفسية المعقدة التى جعلت البعض يتخيل أنه مصاب بمرض عقلى، لكن ما أن تتحدث معه حتى تدرك أنك أمام "حالة فنية" وإنسانية مختلفة، فهو إنسان لطيف وخفيف الظل إلى أقصى حد، وقادر على تفهم الآخر والتعامل معه كما لمست ذلك عن قرب، وهو فنان بارع ظلمته السينما والتليفزيون والقائمون عليهما، فيكاد يكون الممثل الوحيد على مستوى العالم الذى نجح فى تجسيد "عقد البشر" عبر 18 فيلما سينمائيا منهم: "الأخوة الأعداء، دموع الشيطان، وراء الشمس، الغجر"، لذا منحته جامعة "كونكورديا" الأمريكية لقب "رائد السيكودراما"، أى الدراما النفسية، وهو الذى يقول عن نفسه: لقد ظللت 12 عاما بعيدا عن الفن باختيارى اعتذرت خلالها عن العديد من الأعمال التى عرضت على لأنها أعمال ليس لها معنى فالفيلم الحقيقى فى نظرى هو الذى يعيش بعد موتى.
وهنا أسأل القائمين على التليفزيون عن أسباب ذلك التعتيم التام على أعمال هذا الفنان القدير، والذى يحوى رصيده "25" فيلما ومسرحيتين وعشر مسلسلات لا نرى أى منها على شاشة التليفزيون المصرى، وقد لا يعرف الكثيرون أنه قام عام 2007 ببطولة مسلسل "المخبر الخاص" من إنتاج مدينة الإنتاج الإعلامى، ووسط عشرات المسلسلات التى عرضت فى نفس السنة لم يعرض "المخبر الخاص" على التليفزيون المصرى، رغم أن العمل محترم وجيد، وأرهقه العمل فيه بعد التعديلات التى تم إدخالها عليه ليتحول البطل فيه إلى "رمز" قومى فريد، فضلا عن أن هذا وذاك فكل دور قام به فى حياته الفنية ساهم فيه بروحه ودمه وأعصابه، لذلك فهو يحب أدواره كلها، والجمهور يعرف أدواره ويحفظها عن ظهر قلب، ويحبها، ويكفى أنه قدم طوال 30 عاما شخصيات مركبة مستخلصة من تعقيدات البشر حتى أصبح صاحب مدرسة خاصة به، وهى مدرسة "السيكودراما".
نحو 12 جائزة حصل عليها "إسماعيل" طوال مشواره الفنى الطويل، فمنذ بدايته فى الفيلم الإيطالى "أبطال المجد" مع النجم "أحمد رمزى" والمخرج "روبرتو منتيرو" وموهبته تفرض نفسها، ويكفيه أنه نال جائزة من "مهرجان طشقند" فى روسيا عن فيلم "الأخوة الأعداء"، وجائزة من أمريكا كأفضل ممثل سيكودراما، وجائزة جمعية نقاد السينما، وكل تلك الجوائز نالها ولم يكن قد تجاوز الخامسة والعشرين من عمره، فهو على حد تعبيره لا يهتم كثيرا بالزمن لأنه يطوعه حسب مصلحته، ولذلك يقضى وقت فراغه فى دراسة اليوجا والفلسفة التى تمكنه من التعامل مع أى شخص ولو كان الشيطان نفسه، ويرى أن الزواج مثل الفن حرية قائلا: زوجتى كانت تتفهمنى رغم أنها من خارج الوسط وكانت - رحمها الله - تفهم حاجتى إلى البقاء وحدى أحيانا، فأنا لا التزم بالبقاء فى شقة واحدة طوال الوقت بل أبقى فى شقتى الأخرى معها أحيانا، ووحدى أحيانا أخرى فالزواج بالنسبة لى ليس تحقيق "س و ج" بل حب وتفاهم!
يبقى أن أقول إنه منذ ثلاثين عاما وهو يحمل بداخله جذور "7" روايات يتمنى أن يجد الوقت لكتابتهم، ومع حالة الركود التى أصابت السينما بدأ بالفعل فى كتابتها وظل نحو "7" سنوات يكتب هذه الروايات، وقدم أولها "المخبول" فى عام 2001 التى تعد أول رواية تطبع وتنشر لممثل مصرى، وشرح فيها كل أحداث ثورة 25 يناير التى اندلعت فى 2011، وتم ترجمتها بأكثر من لغة كما عرضت عليه دار نشر أمريكية طباعة ونشر روايته الثانية، لذا فهو عضو اتحاد كتاب مصر، وهو واسع الاطلاع حيث قرأ ما يزيد على 20 ألف كتاب.
وأخيرا أقول له: دموعك غالية على محبيك، فهل من يد حانية تنتشل هذا الفنان صاحب الموهبة المتوقدة من حالة الإحباط التى تنتابه فى خريف العمر؟.. هذا ما أتمناه فى الأيام المقبلة!.