المتأمل للموقف المصرى على إعلان الرئيس الأمريكى دونالد ترامب انسحاب بلاده من الاتفاق النووى الإيرانى، وإعادة العمل بالعقوبات الأمريكية على طهران سيجد أنه الأكثر اتزاناً، ويقدم خارطة طريق تحافظ على أمن واستقرار المنطقة.
مصر قالت فى بيان أصدرته وزارة الخارجية مساء الثلاثاء الماضى، إنها تابعت باهتمام كبير القرار الأمريكى الخاص بالانسحاب من الاتفاق المبرم بين مجموعة الدول الست وإيران بشأن البرنامج النووى الإيرانى، وأنها إذ تقدر الحرص الأمريكى والدولى على معالجة كل الشواغل الإقليمية والدولية المرتبطة بالاتفاق النووى مع إيران والتدخلات الإيرانية فى الشؤون الداخلية للدول العربية، فإنها تؤكد ضرورة وفاء إيران بالتزاماتها الكاملة، وفقا لمعاهدة عدم الانتشار النووى واتفاق الضمانات الشاملة مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، بما يضمن استمرار وضعيتها كدولة غير حائزة للسلاح النووى طرف بالمعاهدة، ويُعزز من فرص إنشاء منطقة خالية من الأسلحة النووية وغيرها من أسلحة الدمار الشامل فى الشرق الأوسط، الأمر الذى يُعضد الاستقرار والسلام بالمنطقة.
كما جاء فى بيان وزارة الخارجية أن مصر تذكر بموقفها الثابت الداعى إلى ضرورة الحفاظ على أمن واستقرار المنطقة وسلامة شعوبها، وتعرب عن قلقها البالغ من أية سياسات تستهدف توسيع رقعة النفوذ فى المحيط العربى والتأثير السلبى على الأمن القومى العربى، مشددة فى الوقت نفسه على أهمية مشاركة الأطراف العربية المعنية فى أى حوار حول مستقبل الأوضاع فى المنطقة، وبصفة خاصة المرتبط باحتمالات تعديل الاتفاق النووى مع إيران، وتطالب فى هذا الصدد كل القوى الإقليمية، بما فيها إيران، بالتوقف عن تبنى سياسات أو اتخاذ إجراءات تستهدف المساس بأمن المنطقة العربية، وتأمل مصر ألا يترتب على التطورات الحالية أى صراعات مسلحة بالمنطقة تهدد استقرارها وأمنها.
ما سبق كان نص بيان الخارجية المصرية الذى جاء معبراً عن رؤية مصر تجاه ما يحدث فى الملف النووى الإيرانى، وأقول إنها الرؤية الأمثل والأكثر اتزاناً، لأنها لم تنحز لهذا الطرف أو ذاك، بل أرادت أن تضع الجميع أمام مسؤولياته، وأيضاً الدعوة لكى يكون للدول العربية ذات الصلة بالأزمة دور حال الحديث عن أى تعديلات مقترحة فى الاتفاق، لأن التشوهات التى تم اكتشافها فى الاتفاق كانت بسبب أن الدول العربية كانت بعيدة عنه، ولم يتم إشراكها فى أى حوار، بل تفاجأت بما حدث، ومن الواضح أن الدول الست الكبرى، الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا والصين وروسيا، كانوا متسرعين فى مسألة إبرام اتفاق مع إيران، ولم يكن لديهم الوقت لفتح النقاش حوله، حتى مع الدول التى ستتأثر به سلباً، خاصة دول الخليج التى تعانى من التدخلات الإيرانية فى شؤونها الداخلية، فهذه الدول قالت مراراً وتكرارا إن الاتفاق النووى الإيرانى سيزيد من شهية إيران لزيادة نفوذها الإقليمى على حساب أمن واستقرار دول المنطقة، لكن لم يستمع لها أحد، بل كانوا يحاولون طمأنة دول الخليج، لكنها كانت طمأنة منقوصة، لأنها من جانب واحد، ولم تحاول هذه الدول أن تعطى الخليجيين ضمانات، لأن الدول الست لم يكن لديها أى ضمانات.
بالطبع فإن الموقف الدولى الآن تأزم، خاصة بعد إعلان ترامب الذى لم يكن مفاجئا لأحد، لأنه سبق وأعلن خلال حملته الانتخابية موقفه بوضوح من الاتفاق النووى الإيرانى، وظن الكثيرون أن ترامب فقط يهدد، وأنه لن ينوى ولن يجرؤ على اتخاذ خطوة جريئة مثل الانسحاب من الاتفاق، وتناسوا أن واشنطن باتت الآن فى وضعية مختلفة عما كانت عليه خلال فترة باراك أوباما الذى كانت له حسابات ضيقة تتعلق فقط بالأمن الأمريكى، والحسابات الخاصة به وبالديمقراطيين، دون أن يأخذ فى اعتباره مصالح الأطراف الأخرى خاصة حلفاء واشنطن، فوصلنا إلى المرحلة الراهنة التى تشهد تغيرات كثيرة فى السياسة الأمريكية، لا تقتصر فقط على الموضوع الإيرانى، بل امتدت لملفات كثيرة سواء كوريا الشمالية أو الصين أو روسيا أو كوبا وغيرها من الملفات التى يحاول ترامب أن يعيدها إلى مسار يعتبره صحيحا ومناسباً للأمن الأمريكى ويحفظ أيضا مصالح حلفائه فى العالم.
تأزم الموقف الدولى يتطلب أن تكون ردود الأفعال هادئة، خاصة أن ما فعله ترامب أحدث حالة من الاستقطاب فى المواقف الدولية، ما بين مؤيد ومعارض، ولكل أسبابه ومبرراته، لكن كما قلت يبقى الموقف المصرى الوحيد الذى يصلح للبناء عليه، فهو يدعو إلى فتح حوار يضم كل المتأثرين والدول ذات الصلة بالملف الإيرانى للوصول إلى صيغة ترضى الجميع، وتلبى المطالب وتزيل الشكوك، والأهم أن تضع حداً للنفوذ الإيرانى الضار فى المنطقة.