المكان.. أحد مراكز التحاليل والأشعة الطبية
الزمان .. ظهر يوم السبت 3 فبراير 2017
الأحداث.. تدخل فتاة عشرينية قمحية البشرة، لها شعر ذهبى ترفعه ذيل حصان، ترتدى ملابس سوداء غير مهندمة ما يتناقض مع طبيعتها المتأنقة، ملامحها مصبوغة بالقلق والترقب، "تجز" على أسنانها وتضغط على فكيها فى حركة عصبية، وتضم حاجبيها فتظهر خطوط بجبهتها كعادتها إذا سيطر عليها التوتر.
نظراتها حائرة فى لحظة الإعلان عن نتيجة تحليلها، تشعر أن الدقائق التى تقضيها فى الانتظار سنوات ضائعة من عمرها الذى ترغب فى عيشه إذا سمعت من الطبيب ما تتوقعه وتتمناه".
وأخيراً تستمع لصوت مقبض الباب فى محاولة أحدهم لفتحه، تتحرك نظراتها سريعاً نحوه، وكأنها تنتظر قدرها إما أن يحنو عليها ويأتى بما تتمناه، أو يقسو كعادته ويسرق حلمها، لم يتركها طبيب التحاليل بين ظنونها كثيراً، ففتح الباب وظهر هو بالمعطف الأبيض وبملامح بائسة أكدت لها أن حلمها فى "الأمومة" ضاع، وبدون أى مقدمات ومازال وجهه يملؤه العبوس نطق الطبيب قائلاً:
"مبروك يا مدام إنتِ حامل"، هنا توقف الزمن لثوانى وتوقفت معه أنفاسها، لم تدرك هل ما سمعته كان حقيقة أم أنه من صنع خيالها الهائم بحلم الأمومة منذ صغرها، فحاولت أن تتمالك نفسها مرة أخرى، واستعادت نفسها وقالت للطبيب متسائلة: بجد ؟؟ بجد أنا حامل؟؟، فأجابها بما تشتهى أذنها أن تسمعه "مبرووك فى الأسبوع الرابع كمان"، لم تستكمل سماع كلماته وخرجت مسرعة بعد أن التقطت نتيجة التحاليل الشاهدة على حمل أحشائها للجنين المنتظر.
خرجت من المكان وكل ما تتمناه أن تذهب بأقصى سرعة إلى "عشيقها"، أقصد زوجها، فلم يمر على زواجهما أكثر من 45 يوما، ومع ذلك كانت تحلم كل ليلة بأن تزف له خبر حملها أو خبر "ارتباطهما الحقيقى".
وفعلا.. ركضت فى الشوارع وكأن الجنون أصابها، وعلى الرغم من قرب منزلها إلا انها شعرت أن الوصول له ليس باليسير، وأخيراً دخلت "العمارة"، واستقلت المصعد الكهربى الذى لم يجار رغبتها فى الوصول لحبيبها بأقصى سرعة ممكنة، توقف المصعد وأصبحت أمام باب شقتها أخرجت المفاتيح من "جيب" بسروالها، ويدها ترتعش لكنها مصرة على فتح الباب.
دخلت إلى الشقة وأمامها حوالى 15 مترا للدخول إلى غرفة النوم التى يستلقى فيها زوجها على المخدع، ليسرق من اليوم ساعات يرتاح فيها قبل الذهاب إلى العمل، وفعلاً بسرعة البرق تخطت هذه المسافة بينها وبينه، واقتحمت عليه الغرفة دون أن تعمل لراحته حساب، فتجده مستلقيا على جانبه الأيسر فى الجزء الذى اختاره له للنوم منذ يوم زواجهما الأول، تنقض عليه لتفيقه من غفوته وتقول له وهى تبكى من فرحتها مرددة "أنا حامل أنا حاااااامل".
إظلاااااااام تام
تبقى هذه هى اللحظة الأخيرة التى تبكى فيها من دموع الفرحة، فبعد 48 ساعة من هذا اليوم بدأت قصتها البائسة مع الحياة، فبعد أن ذاقت إحساس الأمومة، ورسمت بخيالها حكايات السعادة والاستقرار مع طفلها القادم، واعتقدت أنها نجحت فى تكوين أسرة مستقلة، وجدت نفسها بطلة لقصة بعيدة كل البعد عن توقعاتها، فبدلاً من أن تبنى طوبة جديدة فى عشها الهادئ بدأت مرحلة "السقوط".
المكان .. فى مطبخها وهى تعد الطعام لزوجها
الزمان .. عصر الاثنين 5 فبراير 2017
الأحداث.. بدأ الألم يهاجم أسفل بطنها، لكنها لم تستمع له واعتبرته عرض من أعراض الحمل الطبيعية، لكنه لم يتوقف عند هذا الحد وقرر أن يهاجمها بشدة ويسقط أول قطرة دماء معلناً الحرب على أمومتها.
ذهبت إلى السرير سريعاً لتستريح ربما تنقذ ما يمكن إنقاذه، استلقت وهى تبكى وتهدئ اعصابها فى نفس اللحظة خوفاً من أن يؤثر حزنها على الجنين ، تمر اللحظات كساعات وبين لحظة والأخرى تلقى بنظرها ربما تكون قطرة دماء واحدة والأمر يستتب بعدها ، لكن تفاؤلها لم يحالفها هذه المرة ، فلم يكن أمامها سواء الذهاب إلى الطبيب المعالج الذى داعب حلمها وهدأ من روعها وقال " كل شىء على ما يرام" و أنه أمر طبيعى ويحدث للنساء مثيلاتها.
عادت إلى منزلها لتكتب بيدها سطورها الأولى فى الانهزام،بعد أن أصاب الوجع قلبها ورحمها المتقلص ، وأحشائها بدأت فى الهجوم الضارى، وهى مازالت مقاومة رافضة الاستسلام ، فلجأت إلى سلاحها الوحيد الدعاء وتضرعت بالعلم وخضعت لكل أنواع العقاقير والأدوية، ولم تخشى ألام الحقن ، بل بدأت تحضر هى الجرعات وتدب السن بكل جرأة فى بطنها فى مشهد لم تتخيل نفسها يوم أنها قادرة على تمثيله ، لكن دفعها أملها فى الحفاظ على جنينها أطول وقت ممكن .
ظلت هكذا أيام حتى جاء ميعاد زيارة الطبيب مرة أخرى ، فالنزيف لم يتوقف لكن لم تتوقف أيضاً نبضات طفلها داخل رحمها ، للأسف سمعتها أثناء الفحص ، الأمر الذى دفعها وحفزها لاستكمال حربها ، فتجددت أحلامها الزائفة وعادت إلى منزلها "ساحة القتال" ، لكن تنصلت منها أعضائها وتكاتفت فى وجهها واستكملت المؤامرة ضد ابنها الذى كتب له الموت قبل الحياة ، وظل الربح والخسارة قائمين أمامها ، فتارة تقترب نحو الانتصار وتعتقد أنها قادرة على الاحتفاظ بجنينها ، وتارة تحبط وتتأكد أن محاولاتها لن تنجح أبداً، ثم تعود لتشد بنفسها من أزرها وتستكمل حربها، ولكن التاريخ لم يحكى لنا يوم عن حرب استمرت مدى الحياة ، فكل شىء وله نهاية، وبالفعل هى تحسست النهاية......
وبعد مرور 11 يوما
المكان : فى غرفة النوم مستلقية بمخدعها
الزمن: ظهر الخميس 16 فبراير
الأحداث: شعرت بركلة بظهرها من قوتها استفاقت من النوم ، ادركت وقتها أنه حان وقت الألام ، لم تكون الركلة الأخيرة ، إنما بدأت سلسلة من الركلات فوق طاقة البشر ، الوجع أصبح بالنسبة لها فى هذه اللحظة كلمة بسيطة لا تصف ما تشعر به، انتبهت قليلاً للتشنجات التى تتعرض لها أجنابها، وشعرت وكأن هناك وحش ضارى يحاول أن ينهش طفلها ، وينتزعه من جدار رحمها بالقوة، فردت بحركة لا إرادية تغلق ساقيها وتضمهما بقوة رافضة أن يسقط الجنين ، وكلما زاد الألم زادت قبضة ساقيها قوة، حتى شعرت بتسلله ، نعم تسلل جنينها بعد أن ركلته أحشائها الركلة الأخيرة وانتصرت على ساقيها البائسة التى لم تسطع ايقاف النزيف، ليخرج طفلها إلى الدنيا دون أن يولد دون حتى أن يكتمل ، خرج دون معالم أو ملامح تعلقها به ، لكن نزعتها الأمومية جعلتها تشعر بأن الـ 30 يوم الذين استقر فيهم بداخلها 30 عام، فرأته يكبر فى خيالها واختارت له اسمه وألحقته بالمدرسة وتفوق بالكلية ووقع فى الحب من زميلته ، وتزوج ورأت أحفاد قبل أن ترحل ، ولكنها صدمت فى واقعها الذى جعله يرحل قبل حتى أن تسمع منه كلمة ماما.
حملته فى قطعة قماش بيضاء، ذهبت به وهو حجمه لا يتعدى عقلة الأصبع إلى شارع جانبى بالقرب من منزلها ، حفرت فى الأرض وضعته لكى يستريح وهى تعلم أنها بذلك لم ولن تستريح ، دفنته بيدها ودفنت معه أحلامها، وأدركت وقتها أن تلك الليلة " ليلة سقوط الجنين" وسقوط حياتها بعده .
المكان : تجلس على مكتبها أمام شاشة الكمبيوتر
الزمن: 14 مايو 2018
الأحداث.. تكتب لكم تلك القصة التى تقرؤها الآن