الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد: حديثنا اليوم عن نموذجٍ فريد من المبدعين، ظل إبداعه فى الجاهلية والإسلام، حتى صار مضرب المثل فى الحالين، إنها تماضر بنت عمرو السلمية، المعروفة للقاصى والدانى بلقب «الخنساء» الأديبة الشاعرة التى استطاع الإسلام أن يحول مجرى حياتها من النقيض إلى النقيض، من غير أن يسلبها موهبتها الفذة، فصارت نموذجاً لقول النبى ﷺ: «إنما العلم بالتعلم وإنما الحِلم بالتحلم» «رواه الطبرانى»، نعم يستطيع الإنسان بإيمانه القوى، وعزيمته الثابته، أن يستبدل بالصفات المرذولة الصفات المحمودة، ما عليه إلا أن يعقد العزم: «وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ»، الخنساء عرفها أهل الجاهلية بالأدب والشعر، حتى أن النابغة الذبيانى قال عنها: «الخنساء أشعر الجن والإنس»، وقال جرير: أنا أشعر الناس لولا الخنساء، وفى سوق عكاظ يتبارى الشعراء بقصائدهم ويجلس النابغة الذبيانى؛ ليحكم بينهم، وتأتى الخنساء بمرثيتها الرائعة، فيقول النابغة متأثراً: لولا أن أبا بصيرٍ «الأعشى» أنشدنى قبلك لقلت: إنك أشعر الناس، ويغضب سيدنا حسان ويقول: أنا والله أشعر منك ومنها. فقال: حيث تقول ماذا؟ قال: حيث أقول:
لَنا الجَفَناتُ الغُرُّ يَلمَعنَ بِالضُحى.. وَأَسيافُنا يَقطُرنَ مِن نَجـدَةٍ دَما
فيقول النابغة: إنك لشاعر لولا أنك قلت: «الجفنات»، فقللت العدد، ولوقلت «الجفان» لكان أكثر، وقلت: «يلمعن فى الضحى» ولو قلت: «يَبرُقن بالدجى» لكان أبلغ فى المديح، وفخرت بمن ولدت ولم تفخر بمن ولدك.
إنها الخنساء التى لما قتل أخوها صخر بكَتْ وأبْكَت الدنيا بمرثيتها له، هى الخنساء التى لما بلغها خبر استشهاد أولادها الأربعة وهى على الإسلام لم تجزع ولم تصرخ، وإنما قالت بثقة وعزيمة وثبات: «الحمد لله الذى شرفنى باستشهادهم، وإنى أسأل الله أن يجمعنى معهم فى مستقر رحمته»، وصدق الرسول الكريم ـ ﷺ ـ إذ يقول: «ومن يتصبر يصبره الله» «رواه البخارى ومسلم»، وإننا لنرى الخنساء اليوم فى أمهات الشهداء اللائى يرسلن أولادهن لأداء الواجب الوطنى بقلب مطمئن واثق فى أن الدفاع عن الوطن ضد الإرهاب شرف لا يدانيه شرف، حتى لوكلف ذلك الأم استشهاد ولدها فهى تعلم أن الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون.
الإسلام لم يمنع الخنساء من ممارسة موهبتها الفذة، بل يوظِّف مواهب الإنسان توظيفًا حضاريًّا لائقًا بالكرامة الإنسانيَّة، فالنبى ﷺ كان يستنشدها فيعجبه شعرها، وكانت تنشده وهو يقول: «هيه يا خناس». أو يومئ بيده، فاستطاع الإسلام أن يهذِّبَ مشاعرها، ويكملها بالصبر والرضا، ويحولها إلى طاقة هائلة من الإبداع والعطاء القائم على أساس من الإيمان والصدق والوعى الصحيح، لتستمر حياتها بكل ألوان الحكمة والأمل حتى لحقت بالرفيق الأعلى فى أوائل خلافة سيدنا عثمان بن عفان، رضى الله عنه، سنة 24 هجرية، 646 ميلادية.