أوراق مبعثرة.. وعدد من الأقلام المكسورة وأباجورة لمبتها محترقة..
الجميع يهرول حزينا فالجسد الممدد تلفه الملاءة البيضاء ينتظر أن يذهب فى رحلته الأخيرة بهدوء.
تبلل دموع أبنائها الملاءة البيضاء..
ترفض سماح أن تنتقل أمها إلى قائمة الأموات فمازالت حيويتها تدب فى كل شبر من بيتهم.
أما هند فالذهول يرسم على ملامحها حزنا دفينا ممزوج بخيبة أمل فلم يتبق على زواجها سوى أيام..
أيام فرقت بين الفرحه والحزن.. ساعات فصلت ما بين الموت والحياة
صوتها مازال يهمس فى أذنه «ياعلى لازم ترجع من السفر تحضر فرح أختك».
على.. عاد لا لكى يقف بجوار أخته فى زفافها.
لكن.. لكى يقف على دفن أمه الحنون فى تراب لا يفرق بين من نحبهم ومن نكرههم كلهم سواء.
أكثر ما يحيرنى حقا هو الابتسامة على وجهه عبداللطيف «الأب والزوج» وكأنه كان يتنظر أن يأخد لقب أرمل.
لم يتكلم..
لم يناقش زوج ابنته الكبرى ولا ابنه على تفاصيل الجنازة ومكان الدفن تركهم يتصرفون وكأن الأمر لا يعنيه!! أو هو فى عالم آخر ليس للأحياء علاقه به..
لم يلتفت أبناؤه إلى حالة أبيهم.. فصدمة وفاة أمهم كانت مفاجأة لهم وهم يستعدون لحفل زفاف أختهم «هند»
أيام طويلة مرت من الفراق.. وذبلت العيون من البكاء
لكن عينى عبداللطيف لم تر النوم ولم تبلل بأى دموع حتى ولو كانت دموع فرحة الفراق
شهر كامل قضاه «على» فى حداد متصل وفى غمرة الأحزان لم يتصل بزوجته وبناته
حتى أنها اضطرت للمجىء لمصر للاطمئنان عليه
لم تنطق «زينه» بكلمة واحدة حتى رأته وارتمت فى أحضانه تبكى بحرقة.. تمرمغ وجهها فى صدره حتى تحس بنفسها بين ضلوعه..
يبعدها «على» برفق تعودته منه فى اللحظات القاسية «ما أقلها»
يشكرها على عودتها من أجله
رغم أنه اعتقد أنها عادت لكى تلحق بطيف والدته التى ربتها مثل ابنتها
لكن دموع «زينة» تسبق كلماتها ليس حسرة على تلك الأم الحنون بقدر ما هو خوفا من مستقبل مجهول تستشعر خطواته فى عينى والد زوجها.
زينة هى الوحيدة التى تستطيع أن تقرأ حالته جيدا..
هو والدهم بالطبع هم الأقرب منها إليه لكنها كانت تخبئ الحقيقة مثله تماما وتطاردها الحقيقة من كل صوب واتجاه
لكن الحقيقه ماتت يوم وفاتها..
لن يعرف أحد حتى ولو عذبوها..
ستبر بقسمها الذى حلفته فى يوم من الأيام بين يديها..
تنهمك زينة مع زوجها فى أمور ترتيب وضع والدهم الجديد خاصة وأن أخوته فى حالة يرثى لها
هند العروس المنتظرة مضربة عن الكلام والطعام..
وسماح ترفض حتى ارتداء ملابسها السوداء وكلما جاء المعزون أصابتها حالة من الصراخ تنتهى بفقدانها الوعى
تدق زينة الباب بلطف فلا يأتيها صوت إجابة..
لكنها لا تنتظر كثيرا وتقتحم باب حجرته بنعومتها المعهودة
تقول بصوت هادئ عمى.. تأكل دلوقتى؟
فنظر إليها طويلا كأنه ينظر إلى فراغ..
يقول لها بعد صمت دام برهه هى إجلال ماتت بجد؟
قالت بقوة لا تعرف كيف خرجت منها؟
ايوه ياعمى إجلال ماتت وشبعت مووووت
إجلال اللى سببت لك رعب ماتت.. ماتت خلاص
نظر إليها بقسوة وجحظت عيناه فتملكها خوف ورعشة حتى أحست أنها أوشكت على السقوط مغشيا عليها
لولا استسلامه إلى عاصفة من البكاء المتشنج الصارخ حتى سمع صوته كل من بالبيت
وهرول الجميع مفزوعين وانطلقوا لفتح باب غرفة والدهم بلهفة فوجدوه منهارا يكسر الأشياء من حوله
يمزق صور زوجته بجنون يضرب يديه فى الحائط حتى سال منها الدم..
يمسك بذراعى زينة زوجة ابنه يهزها بعنف قولى لى أن إجلال لم تمت.. قولى لى أنى باحلم..
قولى لى أنها ستأتى بعد قليل..
ينقض «على» على والده فيخلص «زينة» من بين يديه ويقول له بحنية يا بابا ماما ماتت وادفنت خلاص مش هنشوفها تانى
استريح أرجوك كفاية كده نام شويه
ينهار الاب بين يدى ابنه ويغشى عليه
يستيقط وقد تحول لشخص آخر مشرق الوجه.. مقبل على الحياة يضحك بملء فمه وكأن شيئا لم يحدث
وأخيرا ماتت من كانت تقلب حياتى.. تخرجنى عن هدوئى بحيلها المريرة
يدخل حجرتها بعد أن رحلت بجسدها عن هذا البيت..
يفحص بعينيه كل ركن من أركان الحجرة التى جمعتهما سنوات طويلة..
يجد طيفها يحاصره عن يمينه وعن شماله لكنه هذه المرة لن يبالى!!
سيبصق على طيفها كأنها هى بشحمها يحدثها بقسوة ويعلو صوته..
خائنة..
كذابة..
محتالة..
أنا سعيد بأنك الآن ميتة..
سأرقص فرحا لأننى لن أراكى مرة أخرى..
يلف حول نفسه لفات غير متزنة متهدله يتصبب جبينه عرقا تعلو صوت أنفاسه على صوت صراخه..
يقتحم أولاده حجرته محاولين السيطرة عليه لكنه يبدو هادئا فور دخولهم عليه..
يقترب من كل واحد فيهم يدس كلماته الممزوجة برزاز أنفاسه يسرب إلى آذانهم قنبلته التى طالما أخفاها عنهم
«أمكم زوجة خائنة»
والدتكم السيدة المصون لوثت شرفى وشرفكم فى التراب وعلى أرصفه الشوارع..
كانت تترقب خروجى إلى عملى ليبدأ نشاطها اليومى..
كانت نظرات الجميع من حولى تفضحها لكننى كنت الوحيد المغفل الذى لا يدرك حقيقه خيانتها..
أحببتها كما لم أحب فى حياتى..
عشقت التراب الذى يعلق بأصابع قدميها.. لم أصدق نفسى عندما وجدتها متلبسة؟؟!!
بالخيانة..
واكتفيت بستر جسدها العارى الذى ذبت فيه وبكيت بين يديها ألا تفعل ذلك مرة أخرى..
ووعدتنى فى مقابل ألا أفضح أمرها عندكم..
أمسك «على» بجسد والده يرفعه من على الأرض بعدما انهار باكيا ودفن رأس والده فى صدره..
وأطلق صوتا قويا رخيما يدعو والده فيه إلى التعقل والكف عن الهذيان «مهما كانت أمى قاسية بعض الشىء عليك ألا تدعى هذا الهراء وأن تحاول تشويه صورتها فلن أقبله منك ولن نقبله جميعا»
استجمع الأب كل قسوة الألم والحقيقة وأصدر زئيرا مروعا رج أركان الحجرة وطردهم فى نفس واحد
«اخرجوا.. أتركونى»
زينة كاتمة الأسرار كانت تعرف وحدها حقيقة ما حدث لكن الأيام علمتها كيف تكون أمانة اليمين والقسم؟؟؟
عندما قرر على وسماح وهند إيداع والدهم مصحة بعد تدهور حالته النفسية لم تمنعهم
فمهما كانت الحقيقة فلن يغير ذلك من الأمر شيئا..
فللأموات حرمتها.. وللأسرار قدسيتها.