أمواله وثراؤه الفاحش سيطر على كل العقول، حتى إن أحلام البعض توقفت عند تلك النقطة التى قد يتعثر فيها بكنز قارون، حتى «بكار» نفسه خاض صراعا بعد الإفطار مباشرة فى مسلسله التليفزيونى قبل أكثر من رمضان مضى دفاعا عن كنز قارون الذى أراد «مشرط» أن يسرقه من البحيرة.
ورغم أن البحيرة التى تحمل «اسم قارون» تعانى من الإهمال وفى أغلب أجزائها هى قبيحة تسوء الناظرين، إلا أنها وكما يعتقد أو كما رسخ فى الوجدان الشعبى المصرى، تحوى فى قاعها كنز قارون الذى خسف الله به وبداره الأرض.
لحظة من فضلك.. قبل أن نستكمل قصة قارون لابد أن نعرف أن الأسطورة هنا ليست شعبية تماما، فالخيال الشعبى لم يتدخل فيها بالحذف أو الإضافة أو التعديل، هو فقط رسم نهايات متعددة أغلبها يدور حول مكان وإمكانية العثور على الكنز الذى كانت تعجز عصبة من الرجال عن حمل مفاتيح خزائنه، أما كل هذه النهايات الشعبية فكانت تالية للنهاية الأصلية التى ختم بها القرآن قصة قارون فى قول الله، عز وجل، بسورة القصص: «فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ».
هى أسطورة استخلصها الوجدان الشعبى من القصص القرآنى ليحتفى بها، أو يتداولها لنشر العظة والعبرة، ولا مانع من أن يصاب البعض بهوسها فيظل يحلم بأن يعثر على كنز قارون، ومن الجزء التالى يبدأ الدرس الذى أراد الله سبحانه وتعالى لعباده أن يستوعبوه من قصة قارون الذى لم يكن عبدا شكورا لربه رغم أنه رزقه بكل هذا الرزق، فبدلا من أن يطيع الله، أخذ يغتر بنفسه ويتكبر على قومه ويفتخر بكثرة ما آتاه الله تعالى من الأموال والكنوز، فنصحه النصحاءُ من قومه ووعظوه ونهوه عن فساده وبغيه، ولكنه أجابهم جوابا مستكبرا مدعيا أنه لا يحتاج إلى نصائحهم، لأنه اكتسب ماله بعلمه وفضله، ويروى أنه عندما أنزلت فريضة الزكاة على سيدنا موسى، عليه السلام، أخبر قومه بما يجب عليهم، وقال لقارون مذكرا إياه بتقوى الله وحقه عليه، أن على كل ألف دينار دينارا، وعلى كل ألف درهم درهما، فحسب قارون ما يترتب عليه من الزكاة فاستكثره، وبخل به.. وعن ذلك يقول المولى عز وجل: «إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِى الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِى الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ».
فعل قارون ما يفعله الكثيرون الآن، بخلوا على الله بأموالهم التى رزقهم بها غير أن عقاب قارون جاء سريعا فى الدنيا، بينما لا يدرك «قارونات» هذا الزمن أن عقابا آخر أشد مما لاقاه قارون فى الدنيا ينتظرهم فى الآخرة، وإذا كانت سياراتهم الفارهة تغرهم، وتغرهم قوتهم التى تمهد لهم الطرق ليسيروا فيها بطلة باذخة تسر الناظرين وتداعب عين المواطنين الغلابة الذين تطحنهم زحمة المواصلات، فإنها أيضا أى هذه القوة، تجعلهم غافلين عن قوة أكبر فى السماء، تمنح العبد ما تمنحه من نفوذ ومال، ولكنها لا تهمل حسابه أبدا.
قارونات اليوم مثل قارون الأمس يخرجون فى مواكبهم، غير مبالين بالناس، بل على العكس يتعمدون إثارة مشاعرهم واستفزاز عقولهم، حينما تسير سياراتهم الفارهة أمام شعب نصفه على الأقل ينام بدون عشاء، مثلما فعل قارون الأمس وخرج كعادته فى موكب كبير يضم آلاف الخدم والحشم، وقد تزينت ثيابهم بالذهب والجواهر وركبوا على بغالهم وأفراسهم وهو يتقدمهم على بغلة شهباء زينها، وقد ارتدى أجمل ثيابه وأفخرها مزهوا بنفسه متطاولا، والناس على الجانبين ينظرون إليه بدهشة ومنهم من اغتر به فقال: «هنيئا لقارون إنه ذو حظ عظيم مال وجاه»، فلما سمعهم بعض الصالحين من قومهم نصحوهم ألا يغتروا بزهرة الدنيا.
فهل يجد بسطاء اليوم من يقدم لهم النصيحة حينما يشاهدون مواكب «قارونات» اليوم من أباطرة المال والأعمال أمام أعينهم وكأنها تخرج لهم لسانها قائلة: «مصيركم الشارع والفقر يافقراء.. يا «كخة»، هل يجد هؤلاء من ينصحهم أم تصيبهم الدنيا فتحول أغلبهم إلى باحثين عن المال حتى لو كان على جسد الأخلاق، أو تحولهم إلى منتقمين من الذين أذلوهم يوما ما، مثلما انتقم الله لقوم موسى من قارون.
هل يتعظ «قارونات» هذا الزمن مما حدث لقارون قوم موسى؟، هل أدرك المتطلعون للثراء على حساب مبادئهم وأخلاقهم وأوامر ونواهى الله عز وجل مصير قارون؟ أم أنهم سيستمرون فى طريقهم يجمعون المال فوق المال غافلين عن دورهم فى المجتمع، ونصيب الفقراء فيما جمعوا؟ الإجابة ربما ستكون عكس ما تتوقع، لأن أسطورة قارون وأمواله وقصوره لم تدفع أحدا للتوقف أمام نتائجها بقدر ما دفعت الجميع لتخيل شكل أموال وقصور قارون، وأصبحنا كلنا ننام نحلم ونتمنى بأن تأخذنا الصدفة إلى باب الكنز الذى استقرت به ثروة قارون بعد أن خسف الله بها الأرض.