يبدو أن صناع الدراما فى السنوات الأخيرة، بدأوا التركيز بشكل أكبر على الموضوعات التى تهم المشاهد المصرى، وإنتاج مسلسلات يحاول من خلالها أصحابها محاربة الإرهاب والفساد، خاصة أن الدراما تعتبر من أهم مصادر القوة الناعمة، ومصدر تأثير كبير على المشاهد المصرى والعربى، وفى هذا الموسم الرمضانى تحديدا رفعت الأزمة بمجمل معطياتها حدود المسموح به رقابيا، وباتت حكايات الفساد وانتقاد الحكومة ومشاكسة المؤسسات الأمنية وفضح بعض ممارسات رجال الأعمال والمسئولين هى الحديث الأكبر الذى تدور حوله كثير من المسلسلات، بعدما باتت اليوم حديث الشارع العادى، الأمر الذى استدعى عددا من الكتّاب من ملامسة هموم وقضايا جديدة لم يسبق التطرق إليها، حيث سعى البعض فى كتاباته إلى تقصى خبايا الشرائح الاجتماعية وتداخلاتها لدرجة باتت فيها المسلسلات تقترب من صيغة تحقيقات صحفية استقصائية تجمع فى تفاصيلها بين ما هو درامى وتسجيلى وروائى، وقد جاءت معظم سيناريوهات تلك المسلسلات بكتابة حرفية قائمة على فهم نقدى عميق لمكونات الواقع المحلى، وعلى رسم الشخصية وإضاءة المساحات المظللة فى الراهن الاجتماعى من خلال الإطلالة على الوضع اليومى المعيش، وذلك من خلال بناء واع لشخصيات وأبطال تلك الأعمال التى تناولت قضايا الفساد بمعالجة درامية نافذة إلى العمق بمحاكاة صادقة لواقع وهموم المواطن المصرى.
يأتى على رأس هذه النوعية من أعمال التصدى للفساد والفاسدين مسلسل "عوالم خفية" للفنان الكبير عادل إمام الذى يعيد الاعتبار من خلاله لمهنة القلم، حيث تخلى هذه المرة عن معظم الكليشيهات التى اشتهر بها فى أفلامه ومسلسلاته السابقة، وتلك تعد خطوة محترمة أنه يفكر فى التغيير وتحدى نفسه، ويحسب له هذا العام تخليه أخيراً عن الكوميديا الصريحة والاتجاه لتقديم عمل جاد يجنح نحو التراجيديا، على الرغم من أنه يحتوى على قدر ضئيل من الفكاهة المحببة الخالية من أى إيحاءات أو ألفاظ تخدش الحياء العام، إلا أنه يُصنف بشكل أساسى ضمن فئة مسلسلات الغموض والتشويق، لكن ما يمكن اعتباره مأخذا سلبيا عليه أنه رغم تغيير نوع العمل الفنى إلا أنه لم يصاحبه تغيير مماثل فى طبيعة البطل، فهو لا يزال مصرا على تجسيد شخصية الرجل المثالى الودود صاحب المبادئ الذى لا يخشى شيئا ولا يحتسب لأحد، وربما تختلف كل تلك الأمور خلال الحلقات الباقية من المسلسل بفعل تطور الأحداث، خاصة أن السيناريو بدأ فى عرض لمحات عن ماضى شخصية "هلال كامل" فى بداية الأسبوع الثانى، عندما عمد التركيز على حياته الشخصية وعلاقته بأبنائه وأحفاده، ولعل هذا يمنح الشخصية المزيد من العمق والتعقيد ويحررها من نمطيتها المعهودة.
يبدو واضحا جدا بعد انفصال "إمام" عن يوسف معاطى، أن تغيرا ملحوظا قد طرأ عليه، فنوع الكوميديا التى يقدمها الأخير كان السبب الجوهرى - بحسب الكثيرين - وراء انطفاء الزعيم فى السنوات الأخيرة، ومع ذلك فقد أصر على أن يتعاون هذا العام للمرة السادسة على التوالى مع نجله المخرج "رامى إمام"، والذى استفاد هو الآخر من طبيعة "عوالم خفية" كلياً عن المسلسلات الخمسة السابقة، حيث استطاع تكوين صورة مميزة ونجح فى التلاعب بالإضاءة والظلال فى خلق أجواء تثير الإحساس بالتوجس تارة، والترقب تارات أخرى، وذلك بما يتماشى مع طبيعة العمل القائم فى الأساس على الغموض، وتتمحور حبكته فى التوغل فى عالم من الأسرار الخفية، ويبدو الإخراج مميزاً أيضا فى استخدام أسلوب القطع الحاد والانتقالات السريعة، خاصة فى المشاهد التى تتضمن ربطاً بين الأحداث المتباعدة لتوضيح الصورة وكشف الحقائق، خاصة أنه اعتمد فيها على التركيز على الأحرف الأولى من الأسماء المكتوبة بالمذكرات والأسماء الكاملة للشخصيات المدونة على المطبوعات المختلفة، ما جعلها تبدو شبيهة بأسلوب حَلّ ألغاز الكلمات المتقاطعة وهى الهواية المفضلة لبطل المسلسل "هلال كامل"، لكن يؤخذ عليه فى الوقت نفسه الإسراف فى استخدام هذا الأسلوب، مما أفقده بعض بريقه ولكن بالتأكيد لا يقلل من تميُزه الواضح طوال الحلقات.
يظهر "عادل إمام" فى دور الجد فى مسلسله الجديد "عوالم خفية"، الأمر الذى يعطيه رومانسية استطاع أن يعوض بها، فى مهارة أصيلة لديه، ما غاب عن الدور من كوميديا، فبخلاف أمور لا يمكن للزعيم الاستغناء عنها، مثل ضرب الممثلين الآخرين على وجوههم أو أذرعهم أو رفع حاجبيه دهشة من حماقة الآخرين، إلا أن دور الجد الذى يعانى من جفاء الأبناء، يعطيه عمقا دراميًا لا بأس به، وربما كان ذلك سببا رئيسيا فى أن يحقق المسلسل نسب مشاهدة مرتفعة مع بداية عرض حلقاته الأولى، حيث جاء ضمن الخمسة الأكثر بحثا على جوجل فى قائمة مسلسلات رمضان 2018، كما أنه كان من الأساس يعد أحد المسلسلات المرشحة لاحتلال مكانة متقدمة خلال الموسم الرمضانى الحالى، ليس فقط لأنه من بطولة نجم بحجم "عادل إمام" الذى يحظى بشعبية طاغية فى الوطن العربى بالكامل وليس فى مصر وحدها، إنما لأنه أخيرا نجح فى اتخاذ قرر التعاون مع مؤلف آخر بخلاف الكاتب "يوسف معاطى" الذى - إن صَحّ التعبير - احتكر كتابة أعمال عادل إمام السينمائية والتلفزيونية لسنوات طويلة، فتُرى عن ماذا أسفر هذا التغيير؟ وهل أحدث تأثيراً؟
أستطيع الإجابة عن هذا السؤال بالقول بأنه حدث تغيرا جذريا بالفعل وكان له تأثيره المباشر على عادل إمام الذى تربع على عرش الكوميديا لأكثر من 50 عامًا، ليحصل على لقب "الزعيم" عن جدارة دون منافس له؛ فبمجرد رؤيته على الشاشة يبادر الجميع فى الضحك، تعبيرات وجهه وحدها كفيلة بأن تدخلك فى نوبة ضحك لا تنتهى، لكن الملفت فى مسلسل "عوالم خفية" هو أن عادل إمام نفسه يعود من خلاله لتقديم أعمال شبيهة لما اعتاد تقديمه خلال عقد التسعينات من القرن الماضى، وخاصة مجموعة الأفلام التى قدمها مع العملاقين "وحيد حامد وشريف عرفة" مثل " اللعب مع الكبار - طيور الظلام - المنسى"، والتى كانت تدور حبَكاتها حول إلقاء نظرة على عالم الكبار بعين أحد الأشخاص الواقفين على الهامش، وهو ربما الأمر الذى مكن "عادل إمام" من نهاية الموسم الماضى أن يمتلك رغبة حقيقية فى تجديد نفسه، بعدما قدّم مسلسل "عفاريت عدلى علام" الذى كان - بغض النظر عن مستواه الفنى - مختلفاً عن طبيعة الأعمال التى اعتاد تقديمها منذ عودته للدراما التلفزيونية فى 2012 من خلال مسلسل "فرقة ناجى عطا الله" الذى جمع فيه بين الكوميديا والتشويق والإثارة التى نقلها معه من السينما.
يحسب لـ"محمود حمدان، محمد محرز، أمين جمال" كتاب سيناريو مسلسل "عوالم خفية" براعتهم فى فهم طبيعة العمل الصحفى، ذلك أنهم استطاعوا أن يعيشون القلق والهواجس، ليس كعامة الناس، بل أنهم يلمحون النار قبل اندلاع اللهب، كما إنهم يسمعون الأخبار على غير شاكلة مما يسمعها العوام، وأنهم كانوا فى عناء دائم لاختيار هذى الجملة بدل تلك، واستبدال تلك العبارة بغير هذي، وأنهم على دراية بقوة هذا الحرف المضاف، أو تلك العلامة من التعجب أو الاستفهام، ذلك لأنهم يوقنون بسطوة الصدق، وعبروا بصدق عن الالتزام بضوابط المهنة المقدسة، وأدركوا كم هى شاقة مهنة الصحفى الأعزل إلا من صوت ضميره فيه، حتم عليه أن يتجول بين الألغام شرط ألا يفجر لغما أو ينفجر تحت قدمه لغم، عليه أن لا يتعب و لا يستريح، عليه ألا يمالئ أو يزوغ أو يراوغ، عليه ألا يساوم أو يعرض قلمه - ضميره - فى أقرب ساحة للمزاد، وما أندر وجود كل تلك الصفات فى الغالبية من صحفى هذا الزمان الحالى.
حافظ كتاب السيناريو خلال الحلقات الأولى على وتيرة سير الأحداث التى اتسمت فى سياقها العام بالاتزان، حيث يسعى البطل خلف موضوعات صحفية غاية فى السخونة، لكنهم حرصوا على ألا تكون سريعة للدرجة التى تربك المشاهد، و لم تصل إلى حد الملل، رغم أنها تباطأت فى بعض الأحيان إلا أنهم وبالتوازى مع ذلك بدأوا فى تعريف المشاهد بالشخصيات وتقديمها بصورة واضحة جلية، وإبراز هوايات ومهارات الشخصية الرئيسية التى سوف تعينه فى إتمام مهامه مع تقدم الأحداث، وهو الأمر الذى تغفله معظم الأعمال الدرامية العربية، ولهذا وَجب التوقف أمامه والالتفات إليه رغم حداثة سن كتاب السيناريو، ورغم انقضاء ثلثى الأحداث تقريبا إلا أن السيناريو لا يزال يفتح المزيد ويتطرق إلى شخصيات فرعية أكثر، وهذا الأمر لا يمكن تقييمه إلا بنهاية الأحداث بعد معرفة مدى قدرتهم على لملمة تلك التشعبات فى سياق واحد بأسلوب يتسق مع المنطق، ونتمنى ألا يكون السبب الوحيد وراءها هى آفة "استكمال الثلاثين حلقة" التى تعانى منها الدراما المصرية منذ عقود كما نلحظ ونشاهد يوميا.
قدم الفنان الكبير "عادل إمام" أداء جادا، وأثبت أنه على الممثل مهما بلغ من العمر أن يخلص للدور الذى يؤديه، وأن يعيش فى مجتمع الدور وبإحساس صادق، و أن يحاول الوصول إلى أكبر درجة من الإتقان، و على هذا الأساس يمكن تحديد قوة الممثل أو ضعفه أو ما يسمونه بالموهبة الفنية، صحيح أن الجدية فى عوالم خفية نسبية لكنه أخيراً تخلى عن انفعالاته المعتادة وتعبيرات وجهه المكررة التى تمكنه من تقديم الكوميديا المعتادة منه، وبالفعل تخليه هذه المرة عن الكوميديا الصريحة ساعده على تقديم أداءٍ تمثيلى متزن وذلك ليس بأمر غريب بالنسبة لممثل بخبراته المتراكمة عبر السنوات، ليؤكد لنا فى النهاية إنه لمن الصعب فصل موهبة الممثل وإبداعه عن شخصيته، غير أن التمثيل فن، وكما هو الحال فى أى فن، فلابد من توافر عناصر أساسية لدى الممثل، مثل المقدرة والدراسة والممارسة، وأيضا كان يبدو ذلك واضحا فى أداء الممثلين جميعاً على اختلافهم وبشكل متوازن، فقد استطاع الفنان القدير صلاح عبد الله أن يبرهن فى أدائه لشخصية " دراز" رئيس التحرير جريدة "نبض الشعب"، على أنه من بين القلة من الفنانين الذين لا يمكنهم فصل وسائل التعبير لديهم عن أنفسهم، لأنهم يبدعون باستخدام أجسادهم وأصواتهم وميزاتهم النفسية والعقلية؛ أى أن إبداعهم لا ينفصل عن شخصياتهم.
أيضا استطاعت "بشرى" فرض نفسها بأداء يجنح نحو الانفعال قليلا من خلال تجسيدها المميز لشخصية المحامية الفاسدة "غادة كامل" الابنة العاقة لهلال كامل، أما "فتحى عبد الوهاب" فقد قدم أداءً جيدا جدا لضابط الشرطة، حيث عمد إلى الأداء التمثيلى بعنصر التصنع - أى الكذب بصورة ما - فالممثل الجيد يسعى جاهداً إلى أن يبدو صادقاً لا كاذبا، أو يحاول أن يكون كاذباً بشكل صادق، وأن يغلف هذا التصنع والتظاهر بمظاهر مختلفة من الواقع حتى يصدق المتفرج أن ما يراه ليس تظاهرا أو كذبا، أو على الأقل فهو تظاهر متقن وكذب يحوى صدقا، ومن هنا بدت براعته فى تجسيده للشخصية.