لا يكاد اسمه يغيب عن حلقات الدرس وكتابات المشايخ الأساتذة الكبار منذ مطلع القرن الماضى، فقد وجد الجميع ضالتهم فى هذا الرجل الذى وضع نظرية «مقاصد الشريعة»، فبعد ثمانية قرون من ظهور الإسلام، وبعد عشرات الأئمة وعشرات المذاهب، وآلاف الكتب وآلاف الرسالات وملايين الخطب والمراسلات وملايين الأسئلة والفتاوى، كان لا بد من ظهور عالم كبير، يجمع كل هذا فى إطار جامع، ليخرج لنا بنظرية حاكمة للشريعة الإسلامية وفلسفتها وحكمتها، وكان هذا العالم هو الإمام إبراهيم بن موسى بن محمد أبوإسحاق اللخمى الغرناطى، الشهير بالشاطبى.
اتفقت الأمة، بل سائر الملل، على أن الشريعة الإسلامية وضعت للمحافظة على الضروريات الخمس، هى: الدين والنفس والنسل والمال والعقل، وعلمها عند الأمة كالضرورى.. هذه هى النظرية الجامعة التى استخلصها الإمام بعد ثمانية قرون من الاجتهاد الفقهى فى الشريعة الإسلامية، بكلياتها وفروعها، قائلاً: إن هذه الكليات الخمس أو المقاصد الخمسة من الأمور التى لا يرقى إليها الشك، فليبحر الفقهاء مهما أبحروا، وليتكلم فى أمور الشريعة من يتكلم، لكن الثابت على طول الدهر أن هدف الشريعة الأسمى ومقصدها الأنبل هو الحفاظ على هذه الكليات الخمس، وأى اجتهاد فقهى يخالف مبدأ الحفاظ على هذه الكليات باطل، كما أن أى اجتهاد فقهى يحافظ على هذه الكليات فهو قائم بإذن الله.
ولتعظيم مكانة هذه الكليات الخمس فى الشريعة، فقد حرص المولى عز وجل على تذليل الصعاب أمام مهمة الحفاظ عليها، فأتاح الرخص بعد الرخص، لكى يرفع عن الناس الحرج، ويضمن أن تدوم «مقاصد الشريعة» وألا تتبدل مهما تبدلت الأزمان والأحوال، فقد حفظ الله إقامة الصلاة بإتاحة الرخص فى الطهارة والوضوء، وتيسيرها على الناس بالتيمم فى حالة عدم وجود ماء طاهر، وأباح صلاة القصر، ورفع القضاء فى حالة الإغماء، وأتاح الصلاة قاعداً وعلى جنب، كما أتاح الإفطار فى رمضان فى السفر والمرض، كما حفظ النفس بتحليل ما تم تحريمه فى حالة الاضطرار، كتحليل أكل الميتة ولحم الخنزير وشرب المحرمات فى حالة العطش الشديد، كما أحل الزواج بدون تسمية الصداق تيسيرا، لحفظ النسل، كما أباح الطلاق والخلع، وفى المال حلل الاقتراض الحسن، والتمتع بالطيبات من الحلال، وتبشيع الإسراف والتبذير، وبالنسبة للعقل فقد رفع الحرج عن المكره والمضطر إذا انتابه مرض أو عطش أو جوع.
وقبل أن نخوض فى جزئيات نظرية المقاصد، لا بد هنا أن نؤكد أن الإمام الشاطبى لم يخترع تلك النظرية، إنما وجدها فى كتب الفقه وفتاوى الأئمة ملقاة على دون تأطير ولا جامع ولا تدليل شاف فجمعها وأطرها ودلل عليها، وهذا ما انتبه إليه الشاطبى نفسه الذى كان كثيرا ما يشير إلى مجهود سابقيه فى كتابيه «الموافقات» و«الاعتصام»، وسابقوه هؤلاء هم الإمام الجوينى إمام الحرم المكى، والإمام الغزالى، والإمام العز بن عبدالسلام، وهم من سبقوه فى هذا التقسيم، حينما حصروا المصالح الضرورية فى خمس، هى الدين والنفس والعقل والنسل والمال، لكن هذه النظرية اقترنت باسم الشاطبى منذ تنظيره لها فعرف بها وعرفت به.