كان الصبح فى الصعيد جميلا، لكن الأيام تكون أجمل، إذ التقاك الجد «خلف على» وأنت تهم بالذهاب إلى المدرسة والضجر مرسوم على ملامح وجهك الصغير، بينما يهم هو بالذهاب إلى حقله فيصيح فيك بصوت عالٍ «شد حيلك»، حينها تنتشى روحك ويستقيم جسدك المنكمش من برد الشتاء، وتتسع خطوتك الصغيرة على الجسر القديم.
ما الذى يجعل «ذهنى» دائم الربط بين الجد «خلف على» وعظماء التاريخ، وبينه وآلهة الإغريق، وما الذى يجعلنى وأنا طفل أعتقد أنه التقى جمال عبدالناصر ذات مرة وكرمه، فى الحقيقة لا أعرف، لكننى كلما مررت عليه فى حقله، الذى لا يكاد يغادره، شعرت برهبة تليق به.
كان الجد «خلف على» رجلا طويلا قوى الجسد مثل جندى لم يترك المعركة أبدا، كانت هيئته تشبه الكاتب العالمى الكبير أرنست همينجواى، صاحب رواية العجوز والبحر، وهو دائما، ودون أن يقول شيئا، كان يوحى إلىّ بأنه شارك فى الحرب العالمية الثانية فى العلمين وشهد دمارها، وأنه خاض حروب العدوان الثلاثى على مصر فقويت روحه وعزيمته، وأن صمته الدائم وحزنه حدثا بسبب نكسة 1967 وأنه قاتل فى حروب الاستنزاف لذا هو لا يفقد الأمل أبدا، هذا مع أننى فى الحقيقية لا أعرف الكثير عن تاريخه القديم، ولا أعرف إن كان قد التحق بالجيش أم لا، لكنه كان بالنسبة إلىّ «رمزا» أتأمله طوال الوقت.
سنوات كثيرة مرت على الجد «خلف على» لكنه ظل قويا يمتلك من مقومات الشخصية المؤثرة ما لا يمتلكه الآخرون، ومع أنه كان رجلا فقيرا، لكن الله آتاه الحكمة وفصل الخطاب، فكان كلامه قليلا وموزونا، يتحدث على مهل كأنه يتذوق الكلمات قبل التلفظ بها، يعرف قدر الرجال والأطفال، كما يعرف قيمة الأشياء.
فى سنوات متأخرة أدركت أنه يشبه سقراط تماما، ليس فى هيئته فقط، لكن فى أفكاره العميقة واهتمامه الدائم بالخير والجمال، كنت أراه جالسا فى حقله خارج القرية، مطلا بوجهه على البيوت الفقيرة الساكنة، يقضى يومه فى حقله ولا يعود إلى بيته إلا بعد أن يطغى الليل كاملا على كل شىء.
يعرف الجميع قدر «خلف على» ويعرفون عدله، لذا عندما ينشب الخلاف بين الناس فى تقسيم الأرض، يذهبون إليه، فيأتى ممسكا عصا القياس، ثم يقول قولته «الفاصلة» فى هذه المسألة الشائكة، فيرضى الجميع، ويعود هو إلى مكانه، لا تجده فى مجالس المتحدثين ولا يشغل نفسه بتوافه الأمور.
مات الجد «خلف على» فجأة، وترك فراغا لم يملأه أحد، وحكمة ظلت غائبة من بعده، والآن كلما عدت إلى القرية ذهبت إلى خارجها وأنظر إليها من المسافة البعيدة التى كان هو ينظر منها وأتأملها مثلما كان يفعل، فأراها على اتساعها مجموعة من البيوت القليلة التى تحتويها العين فى نظرة واحدة، بها أناس يغلب عليهم «الوجع والهم» ويحتاجون لمن يقول لهم ولأطفالهم «شدوا حيلكم».