عنه يقول العلامة المحقق أحمد حسن الباقورى: «لا ريب أن الله تعالى مسخر لجمال الدين الأفغانى ولكل ذى مذهب صالح صادق من يكون لسان صدق فى الدفاع والإقناع، فإذا جمال الدين ملء الأسماع ومشتهى الأبصار، ثم إنه بعد أن ضمه القبر أعلى قدرا وأرفع ذكرا وأجل جلالا وأعظم هيبة مما كان بين تلاميذه ومريديه، والإمام جمال الدين من أولئك الزعماء الفادرين بالفضل بين الناس تزيدهم الأيام فى موتهم وفى تقادمهم جدة وحاجة المجتمع إليه لا يشتد هتافها به ولا تمنيها له من حيث هو أعلم العلماء ولا أفقه المتقين، وإن كان هو أعلم العلماء وأفقه المتقين، ولكن لأنه كان رجلا منطلق الفكر بين طبيعة الحياة وحقيقة الدين، وهو مع ذلك يحب أن يجمع بقدر ما يكره، أن يفرق ويحب، أن يتسامح بقدر ما يكره أو يتعصب، وكلما حاولت أن أتخيل وجه رسول الله وجدت أول الطريق إلى هذا الخيال الجميل فى وجه السيد جمال الدين فى إشارة منه إلى نسبه الشريف.
عاصر جمال الدين الأفغانى «1839 – 1897م»، وهو المولود بعاصمة أفغانستان «كابول»، تطور مصر وتقدمها الفكرى على يد الإمام حسن العطار وتلميذه رفاعه الطهطاوى، فرأى فيها ملكات وخصائص لم تكن متوفرة فى غيرها، وبعد أن كان ينوى أن يمر سريعا على القاهرة طاب له المقام فيها وتجسد حلمه بها، فهدأت روحه التى كانت لا تطيق الركود، ويرتقى نسب الإمام جمال الدين الأفغانى إلى بيت النبوة الشريف، فهو حفيد الإمام على زين العابدين بن الحسين بن على بن أبى طالب، رضى الله عنه، ويبدو أنه قد ورث من آل بيت رسولنا الكريم شجاعة الرأى ونبل المقصد وقوة الحجة ومحبة العلم، فجمع حوله كل نفس كريمة وكل عقل متوقد وكل قلب لاهث يهفو للاطمئنان ويبحث عن الحقيقة والأمن الروحى والوطنى والعالمى، حالمين بجمع روافد العالم الإسلامى فى مصب واحد لتتضاعف قوته، فى مواجهة الخطر الأوروبى ويصلح من نفسه سياسيا واجتماعيا ويستيقظ من سباته العميق.
وقف جمال الدين الأفغانى، بحسب تعبير المفكر الإسلامى محمد عمارة، «كالإعصار الكاسح والبحر الهادر، يمجد العقل فى أفكاره ومناظراته ومناقشاته، وفى تفسيراته وتطبيقاته، فجعل الحكم للعقل والعلم، وينسب له أنه كان أول من دعا إلى التفريق بين آيات القرآن والحقائق العلمية قائلاً إن «القرآن يجب أن يجل عن مخالفته للعلم الحقيقى، خصوصا فى الكليات، فإذا لم نر فى القرآن ما يوافق صريح العلم والكليات اكتفينا بما جاء فيه من الإشارة، ورجعنا إلى التأويل، وبفضل إيمانه بالعقل واستماتته فى الدفاع عن الإسلام قارع المشككين فيه الحجة بالحجة والبرهان بالبرهان، ولما ظهرت نظرية دارون للوجود وتشكك العالم الإسلامى بسببها فى معتقداته لم يجد المسلمون غير الأفغانى ليرد على دعاة هذه النظرية الذين نقلوا مفاهيمها بشكل خاطئ، وقال إن هذه النظرية متناقضة فى متنها، فالكون كله «منظم» بإحكام وهى تدعى أن سبب خلق الكون «مصادفة»، فكيف تنتج الفوضى نظاما؟ وهو الرأى الذى أسهم فى طمأنة الناس وتهدئتهم، كما أسهم فى نقل مبادئ الدارونية الصحيحة التى لا تنكر خالق النسمة الطيبة أو الروح، فأدى ذلك إلى تسامح الأفغانى مع النظرية التى لا تصطدم بالدين، وآمن بفكرة الانتخاب الطبيعى التى هى أساس الحياة.
• نشرت هذه الحلقات بشكل مطول فى رمضان 2012 تحت عنوان «فقهاء التنوير»، وأعيد نشرها احتفالا بشهر رمضان الكريم.