مثل فارس عربى محنك احترف سباقات القدرة والتحمل بحكم أنه يعرف طبيعة الأرض ونبض الحصان الذى يعتليه جيدا فلا يخسر أبدا، إنه الفنان الكبير يحيى الفخرانى الذى كتب له أن يكون بينه وبين جمهور رمضان كيمياء خاصة، وحالة إبداعية مختلفة هى مزيج من الثقة والاحترام، كما أن لديه فى الوقت ذاته حالة من الصدق الفنى النادر تمكنه دائما من السيطرة على قلوب المشاهدين من خلال تألقه، وعلى الرغم من أن هذا النجم يقف على حافة منتصف السبعينيات، إلا أنه يبدو فى قمة شبابه وتألقه أمام الكاميرا، عندما ينسى عمره تماما فيقفز ويرقص مثل فراشة تواقة إلى الضوء، ويرسل ضحكاته الطفولية فى كل اتجاه بخفة لا نظير لها، فتأتى بردا وسلاما على وجوه البسطاء من أبناء هذا الشعب، لتصبح كفيلة بإزالة أعقد الهموم، وقادرة على رسم البسمة العذبة على وجوه الحيارى والحزانى، جراء ظروف اقتصادية طاحنة تعصف بحياتهم بفعل نار الأسعار.
انطلاقا من فهمه العميق بأن الدراما عمل إبداعى فى الأساس، فهو يدرك تماما أنها لا ينبغى أن تركز على النماذج الشاذة أو المتطرفة فى اتجاهاتها وقيمها، فالمحصلة النهائية من هذه الأنواع تترك تأثيراتها وبصمتها على المتلقين، وهذا ما نخشاه جميعا فى طريقة التناول والعرض، لأنه ليس كل ما يعرض يتفق مع قيم المجتمع من حيث المظهر والملبس والثقافة والأخلاق، فالشباب يلجأ إلى تقليد المشاهير دون أدنى تفكير، ومعظم ما يرتدونه من ملابس وما يكتب عليها من ألفاظ خارجة صارخة لا تتناسب مع الحياء والذوق العام، ومن أجل ذلك يختار "الفخرانى" فى كل موسم رمضانى عملا دراميا يليق بجمهور متعطش دوما لإبداعه الصادق، وفى هذا الموسم عمد "الفخرانى" إلى تقديم عمل اجتماعى فى إطار ما يسمى مجازا "لايت كوميدى"، إنه مسلسل "بالحجم العائلى" الذى يأتى على عكس أعمال الفخرانى الدرامية فى السنوات السابقة، وهو ما يؤكد ذكاءه وقدرته على الاختيار والتنوع، فضلا عن تغيير جلده كما يقول أهل الفن، وبعيدا عن الفخرانى فقد توافرت لهذا العمل كل أسباب النجاح، بداية من الفكرة البسيطة والقائمة على الغواية والشغف بالأشياء التى نحبها، ثم طاقم العمل الشاب الذى منح العمل طاقة هائلة بداية من كاتب العمل "محمد رجاء"، الذى كتب مسلسل "فوق مستوى الشبهات" للنجمة يسرا الذى حقق نجاحا كبيرا فى العام قبل الماضى، وكذلك مخرجة العمل الشابة "هالة خليل"، ويشارك الفخرانى فى البطولة ميرفت أمين ويسرا اللوزى وشيماء سيف وأحمد مجدى، وكوكبة أخرى من شباب الممثلين الواعدين.
تدور أحداث "بالحجم العائلى" حول السفير السابق نادر التركى، الأب والجد الذى يتقاعد من عمله بالسلك الدبلوماسى ليتفرغ لممارسة شغفه بالطهى، يفتتح مطعما فى إحدى القرى السياحية ويقوم بإعداد الوجبات بنفسه، فيحقق شهرة كبيرة، وهو ما لا يروق لزوجته وأبنائه، ووسط الأحداث تندلع المواقف الكوميدية والضحكات الصافية، ففى هذا العمل يقدم "الفخرانى" لونا كوميديا دافئا ونظيفا بحيث لا يخشى المشاهد من مشاهدة أطفاله لها، كما أنها كوميديا اجتماعية لا تلجأ إلى الحل الأسهل على غرار غالبية الأعمال الكوميدية التى لا تعتمد إلا على "الإيفهات" التى تتجاوز فى غالبها حدود الأدب عبر إيحاء وألفاظ لا تيلق بمقام شهر رمضان الكريم، فهو يجسد حالة استثنائية فى دراما رمضان هذا العام، فمن الصعب أن تجد نجما صنع هذه العلاقة الدافئة بينه وبين الجمهور مثل الفخرانى، كالعادة خطف الفخرانى الأضواء من الجميع بهذا العمل الجميل الذى قدم - وسط الأحداث السياسية الساخنة التى تمر بها المنطقة - البهجة وبحجم عائلى.
ولأن الدراما يجب أن تقوم بدور فعال فى تصحيح المفاهيم والمساهمة فى عرض القضايا الراهنة وتوضيح سبل العلاج من خلال مواقف حياتية اجتماعية، فقد خرج الفخرانى بمسلسله "بالحجم العائلى" من قوقعة التسلية والترفيه إلى رحاب التنمية والتطوير لبلدنا مصر المحروسة، لذا تعمد الخروج مع فريق عمله للهواء مباشرة وقدم إطلالة خاصة من على شاطئ البحر، ما جعلنا نتنفس هواء نقيا منعشا وسط زحام العنف والقسوة التى تحظى بها بقية مسلسلات الموسم الرمضانى، حيث قام بتصوير الغالبية العظمى من مشاهد المسلسل فى إحدى القرى السياحية بـ"مرسى علم"، وهو ما يأتى فى إطار تنشيط السياحة المصرية فى أعقاب تلك الانتكاسة القوية التى أصابتها بعد أحداث يناير 2011، ومن ثم تم التصوير فى تلك القرية التى أصبحت حديث الناس على مواقع التواصل الاجتماعى، ما دفع كثير من الأسر المصرية والعربية بالحجز فيها لقضاء إجازة عيد الفطر المبارك خلال الأيام المقبلة حيث تم حجزها بشكل كامل.
قدم سيناريو مسلسل "بالحجم العائلى"، الذى كتبه "محمد رجاء" قصة مُتماسكة يسهل متابعتها، لأنها تعتمد على خط درامى رئيسى بارز يتصل بعدد كبير من الخيوط الدرامية الفرعية، وربما سارت الأحداث ببطء فى بداية الحلقات، ولم تشهد أى تقدم حقيقى بالأحداث أو تطور - ولو بسيط - بالشخصيات، وبقيت الحلقات التالية تدور فى حلقة تقرب "نادر" إلى أبنائه بينما هم يحاولون التهرّب منه وإخفاء مشاكلهم الشخصية عنه، لكن تطور الأحداث سرعان ما عجل بتحقيق أدنى مستويات التشويق شيئا فشىء، ونجح فى إبعاد شبح الملل عن أحداث المسلسل، من خلال تضمينه عدداً كبيراً من الخيوط الدرامية الفرعية التى زادت من شغف المتابعة ويدفع المشاهد لترقب الحدث التالى، وقد ساهم فى ذلك مستوى أداء "يحيى الفخرانى" الذى أمسك بخيوط الشخصية التى يجسدها وقام بإبراز تفاصيلها وبلورة جوانبها الإنسانية والتعبير عن أعمق المواقف وأكثرها تعقيداً بأبسط الأساليب، خاصة أن شخصية "نادر تركى" ليست جديدة تماماً على "الفخرانى" فهى تحمل كثيرا من ملامح شخصيتى "حمادة عزو" التى سبق تقديمها فى مسلسل "يتربى فى عزو" وشخصية "سيد عبد الحفيظ" التى جسدها فى مسلسل "أوبرا عايدة" من قبل.
لقد جاء اختيار "الفخرانى" لأسلوب "اللايت كوميدى" فى "بالحجم العائلى" كمحاولة للتخفيف عن الجمهور، الذى تعب من متابعة أعمال تزيد كآبته وضغوطه النفسية والإنسانية التى يعانيها من ناحية، خصوصاً أنه يتم نسيانها بمجرد انتهاء شهر رمضان، مقارنة بأعمال مرت عليها سنوات ولا تزال محفورة فى الذاكرة، ومنها للفخرانى "ليالى الحلمية - زيزينيا - نصف ربيع الآخر - الليل وآخره"، ومن الناحية الأخرى تراه يرغب فى استعادة النجاح اللافت الذى حققه على الصعيدين النقدى والجماهيرى، عبر أعماله الكوميدية "يتربى فى عزو - ابن الأرندلى - عباس الأبيض فى اليوم الأسود - جحا المصرى - ألف ليلة وليلة - على بابا والأربعين حرامى - صيام صيام" وغيرها من أعمال ستظل محفورة فى ذاكرة المشاهدين، ومن هذا المنطلق تضمن تكوين شخصية "نادر تركى" عِدة جوانب متناقضة، فهو ذلك العجوز الذى يعيش بقلب طفل وهو أيضاً الأب الحنون الذى يعانى من عقوق أبنائه، وهو ذلك الرجل المرح المُتباسط مع موظفيه للدرجة التى قد تدفع بعضهم للاستهانة به، وهو بذات الوقت السياسى المحَنك الذى يمتلك قدرة فائقة على إدارة المفاوضات وإنهائها لصالحه.
لقد برع "الفخرانى" فى التعبير عن كل ذلك عبر كل مشهد ظهر به، وقدم أداءً متوازناً دون أن يغلب أى من تلك الجوانب على الآخر، ورغم أن الشخصية فى مُجملها ذات طابع كاريكاتورى - بعض الشيء - إلا أن تجسيد الفخرانى أكسبها قدراً كبيراً من المصداقية ودفع المشاهد للتعاطف معه فى العديد من اللحظات، وكأنه يحقق مقولة "جاك ليمون" التى تقول: الحقيقة الوحيدة بشأن الكوميديا هى أن عليك أن تؤدى دورك بجديّة تامة٬ حتى لو كانت المادة هزلية ومجنونة، إذا لم تفعل ذلك فسوف تضيع، ومن هنا يتعيّن عليك أن تخطّط للدور٬ تتدرب عليه٬ ثم تنفذ، كما يجب أن توقت الضحك فى ذهنك بحيث لا تواصل الحوار بينما الجمهور لا يزال يضحك فى الصالة، إنك لا تستطيع أن تخترق الشاشة بعينيك لترى ردود فعل الجمهور كما يحدث فى المسرح، التوقيت إذن مهم وصعب، كما فعل الفخرانى فى الانتقال عبر العديد من المشاهد التى تتأرجح بين الجد والهزل، وكأنه أيضا يحاكى "جين هاكمان" الذى يعبر عن الكوميديا قائلا: الكوميديا أجدها منعشة جداً٬ وصعبة جداً أيضا، يتعين عليك أن تذهب الى الموقع وأنت فى حالة مختلفة٬ وبروح مختلفة٬ ينبغى أن تكون مبتهجاً٬ خالياً من الهموم٬ وتتصل بالدور بطريقة مختلفة، وهو ما فعله "الفخرانى" محافظا على خط الكوميديا فى كل حلقة من حلقات المسلسل.
غالباً ما يقولون بأن تأدية الكوميديا أصعب٬ وأظن أن هذا يعود إلى الاعتقاد بأن على الممثل أن يكون مضحكاً حين يؤدى دوراً كوميديا، ومن أجل هذا كان الفخرانى هو الأوفر حظاً بين ممثلى مسلسل "بالحجم العائلى"، ليس لأنه البطل الرئيسى للعمل أو لأنه الأكثر موهبة وخبرة، إنما لأن مستوى الأداء فى هذا النوع من الأعمال الدرامية يرتبط دائماً بأسلوب رسم الشخصيات على الورق، وكلما كانت الشخصية أكثر تعقيداً أو غرابة منح ذلك الممثل فرصة أكبر للإبداع، ولعل الجهد الواضح للمخرجة "هالة خليل" فى أولى تجاربها التليفزيونية بعدما قدمت للسينما ثلاثة أعمال مميزة هم "أحلى الأوقات - قص ولزق - نوارة" وكانت لها بصمتها الواضحة تماما، خاصة خلال الحلقات الأولى التى تضمنت قدراً كبيراً من الكوميديا الهادئة النابعة من فرط الجدية وتفاعل الشخصيات مع بعضهم، وهو الأمر الذى يُعدّ سمة رئيسية بأفلامها السينمائية، كذلك برعت "هالة خليل" فى استغلال موقع الأحداث بمرسى علم، لتقدم لنا صورة مبهجة تتناسب مع الحالة العامة للمسلسل.
وأخيرا يمكننى القول بأن مسلسل بالحجم العائلى، هو عمل درامى مسل ومبهج إلى حد كبير فى أغلب أجزائه، حيث وفر الحد الأدنى من عوامل جذب المشاهد بأسلوب "اللايت كوميدى" الذى كان متوفرا فيه بالقدر الكافى وموظفا بشكل سليم، فلم ينحدر المسلسل للدرجة التى تجعل المشاهد يشعر بالضيق إن صادفه وهو يقلب بين محطات التليفزيون، وربما ساهم فى ذلك تطورُ تقنية الكاميرا التليفزيونية، فى تلك المرحلة، وتطورُ أجهزة المونتاج والصوت والإضاءة، الأمر الذى جعل بالإمكان الخروج خارج الاستوديو، والتشابه مع السينما فى تناول الطبيعة، بكل ألوانها وتضاريسها واتساعها وصدقها؛ لذلك كانت لغة الدراما التليفزيونية تحتاج إلى مخرجين سينمائيين، يجيدون التعامل مع رشاقة الكاميرا الواحدة، المتحررة للتو من سجن الاستوديو، وفضلا عن كل ماسبق لم يعتمد صناع العمل على "الإساءة والشتائم"، والـ"إيفهات" السابقة من أجل صنع الكوميديا، بل على "ردود الأفعال"، أما عن "بهجة الفخرانى"، فلم ينشرها على العاملين فى المنتجع فقط، بل على المشاهدين أيضاً، إذ نراه يرقص على أغانى الراحل "محمد فوزي"، منتقلاً إلى عالم لا ينتمى إلى عالمنا، حيث أهدى فريق العمل الحلقة الـ 13 إلى روحه، بمناسبة 100 عام على ميلاده.. تحية تقدير واحترام لـ "يحيى الفخرانى" فارس القدرة والتحمل فى الدراما المصرية القادر دوما على جلب متعة لا تفنى.