يعد شهر رمضان هو الموسم الدرامى المفضل لنجوم وصناع المسلسلات على اختلاف أشكالها وألوانها فى الوطن العربي؛وفى غمرة اشتعال السباق الدرامي، بنجومه وعمالقته هذا العام ،يقبع مسلسل "رسايل" فى زاوية هادئة ضمن كعكة "السباق الدرامي" فى ظل منافسة حامية الوطيس، لكنه حتما يخطف أنظارك ويجبرك على احترامه، ومن ثم فقد نال هذا العمل الدرامى إشادات واسعة على مواقع التواصل الاجتماعي، خصوصاحبكةالسيناريو المميزة، التى كتبها بعناية فائقة السيناريست "محمد سليمان عبدالمالك"، فضلا عن وجود طاقم عمل مميز على رأسه النجمة الكبيرة "مى عز الدين"، وهو ما ظهر من خلال تصدر هاشتاج مسلسل "رسايل" قائمة الأكثر تداولا على "تويتر" خاصة بعد الأحداث المثيرة التى شهدتها أولى الحلقات، ونال المسلسل اعجاب الجمهور المتابع له حيث تفاعل عدد كبير من رواد مواقع التواصل الاجتماعى مع الهاشتاج طوال الحلقات التى تحمل فى طياتها 30 رسالة تجنح إلى عالم فانتازى خاص من صنع خيال المؤلف.
الفكرة الرئيسية التى وضعها السيناريست "عبد المالك" تكمن فى خطوط رفيعة تفصل الواقع عن عالم الأحلام، وهو يطرح لعلوم "البارابسيكولوجي، أو الماورائيات" ، فى حين يخجل المفكرون والمعنيون الأوائل من القيام بمثل هذه المهمة الخلوقة، وإن على سبيل الطرح اليومي، حيث ترى "هالة بديع" التى تجسد شخصيتها "مى عز الدين" أحلام عن حادثة معينة مرتبطة بشخص تعرضت معه لحادث وهو "سامح" والذى يلعب دور النجم الشاب "أحمد حاتم"، لتكتشف أن ما تراه حقيقة وقعت بالفعل تمكنها من مساعدة بعض الأشخاص، أما الخطوط العريضة للمسلسل فقد تتشابه إلى حد ما مع فكرة عمل أجنبى آخر اسمه "Medium" من بطولة "باتريشيا أركيت و ميغيل ساندوفال"، وفاز المسلسل بعدة جوائز أبرزها جائزة "إيمي" لأفضل ممثلة فى عمل درامى عن دور "أليسون ديبوا" فى 2005، كما ترشح أيضا أكثر من مرة لجائزة الغولدن غلوب، وقد تم عرض هذا المسلسل بدايه من عام 2005 واستمر حتى 2011، حيث يتناول المسلسل حياة "أليسون" السيدة المتزوجة التى ترى أحلام عن حوادث وقعت لتساعد من تعرضوا لهذه الحوادث، تماما كما تساعد "هالة بديع" فى كشف غموض الحوادث التى تراها فى أحلامها، والتى تتشابه مع أحلام "أليسون" مع بعض التعديلات الجوهرية التى أضافها السيناريو على الطريقة المصرية.
ومما لاشك فيه فإن مسلسل "رسايل" يعمد إلى إضاءة خاصة لمكامن خفية فينا نحن الذين نسكن روح الشرق العربي، بل إنه فى الواقع يجعلنا نضيء القنديل الصغير الذى أطفأناه فى دواخلنا، من شدة التحجر الفكرى العقيم، أو التطرف الدينى الذى يمنع الأخذ بأسباب العلم لصالح من يسمون أنفسهم بعلماء الدين، وهل هناك من هى أهم من مصر،أم الدنيا ومهد الحضارات الإنسانية، لتقوم بهذه المهمة وتشرع الأبواب الموصدة بفكر ظلامى أمام الدراما العربية، وتفتح الشبابيك المغلقة على مصراعيها فى رؤوسنا الجامدة أحادية النظرة، والفضل الأول والأخير يبقى للكاتب "محمد سليمان عبد المالك" فى سعيه الحثيث نحو فتح آفاق جديدة فى هذا المضمار الصعب، وهو ما حققه بالفعل من خلال مسلسله "رسايل" الذى جعله يسير بإيقاع يحترم الزمن الذى نعيشه حاليا بتقلباته المرعبة تارة، وتارة أخرى بفعل التكنولوجيا التى تتحكم فى كل شيئ، ولقد نجح إلى حد كبير فى ألا يدخلنا فى المط والتسويف والسخافة فى اللقطات الدخيلة التى تسطح العمل وتجعله فجا مباشرة على مدار 30 حلقة وعبر 30 رسالة تتسم بالتشويق والإثارة المحببة للمشاهد.
نعم الخطوط الدرامية محسوبة بدقة لصالح الحدوتة الرئيسية ولا خطوط عرضية سمجة تتسم بالممل والتطويل الذى اعتدناه فى معظم مسلسلاتنا العربية، ولذلك فإن "مى عز الدين" تؤدى دورها بسلاسة ونورانية تبدو على ملامحها الهادئة البسيطة، وهو ما يعكس بالضرورة صدقا فنيا لافتا للانتباه، وكأنها عاشت التجربة حقا، بل وتعرف جيداً كيف يمكن أن تكون الحالة النفسية لمن تمتلك هذه الموهبة، وهى بالطبع نعمة من الخالق عزّ وجل، لذلك وضع الكاتب للشخصية مواصفات خاصة، حيث ترتدى الحجاب كإشارة إلى أن الإيمان، أو ترمز لتلك المسحة الدينية التى تتسم بها "هالة بديع" فى تعاطيها مع أحلامها، وكلاهما لا يختلفان مع العلوم بل يلتقيان كحبيبين عاشقين، ما جعل المسلسل عبر 30 حلقة يحتل مرتبة متقدمة، لأنه بالإساس يميل إلى كافة التسلية على جناح تشويقى تثقيفى وهادف، كما حرص على تناول عدة قضايا تهم الناس، وليس موضوعا واحدا بعينه ، وبذلك تكتمل فيه كل عناصر الدراما، ، ويبقى الأهم أن المسلسل نوعية مركبة ما بين الإثارة والتراجيديا والأكشن والكوميدى، وعندما تابع الجمهور الأحداث أدرك بما لايدع مجلا للشك أن "رسايل" تفاصيله وأحداثه لا تشبه الأعمال الدرامية المعروضة فى الموسم الرمضانى فى عام 2018.
ولهذا السبب تقول "مى عز الدين" أن هناك عدة عوامل وراء تحمسى لسيناريو "رسايل"، أولا فكرة المسلسل، والتى وجدتها غريبة ومختلفة من نوعها، ثانيا السيناريو رائع ومكتوب بحرفية عالية من المؤلف "محمد سليمان عبدالمالك"، إضافة إلى أن العمل يناقش الكثير من القضايا التى تهم الناس، وبطبيعة الحال يأتى على عكس تجاربى السابقة، عندما قدمت أعمالا درامية فى الأعوام الماضية، كانت تتضمن الأعمال "اللايت كوميدى"، لكن الذى كان جديرا بالملاحظة هو أن هنالك "كيمياء" خاصة وتفاهم يجمعها بالمخرج "إبراهيم فخر"، وفى هذا الصدد تقول: "أننى أعتبر (فخر) هو "مرايتى"، والدليل على ذلك هو عدم ذهابى للمونتير لكى أشاهد المشهد بعد انتهاء التصوير، تاركة له زمام الأمور، فهو يحرص على جدا، وذلك بسبب التفاهم والثقة التى بيننا سويا"، والواقع - من وجهة نظرى الشخصية - أن "فخر" له رؤية فى جميع عناصر العمل من حيث الموسيقى التصويرية التى يوظفها على نحو جيد يبرز الأحداث، ولا يثبط من إيقاعها، فضلا عن تحكمه الاحترافى فى حركة وأداء الممثلين والعناية الفائقة بالصورة والسيناريو فى خدمة الدراما فى آن واحد، وهذا ما جعله واحدا من المخرجين المميزين على الساحة حاليا، والذين يجتهدون فى تقديم مسلسل متقن وعلى أعلى مستوى، ويبدو واضحا أن التفاهم والارتياح هما سر النجاح الذى يجعل العمل الدرامى متكاملا من جميع عناصره كماظهر لنا فى مسلسل "رسايل".
عدة أسباب أخرى ساهمت فى نجاح مسلسل"رسايل" ومن أهمها أن الحجاب الذى ظهرت به الفنانة مى عز الدين فى المسلسل، يناسبطبيعة وجهها الدائرى أو البيضاوي، وتم عمله من خلال ارتداء بندانة قطنية أسفل الطرحة ثم وضع طرحة شيفون عليها وربطها من الخلف، وأخذ الطرف الطويل ولفه من الأمام حول الرأس، وهو مايبرز دقة اختيار الملابس والتى تبدو مناسبة تماما للديكور الهادئ جدا، والذى يعكس التناغم فى إطار المزاج العام للأحداث غير المشحونة بالغضب، أما المكياج الذى ظهرت به "مي"، فقد كان مناسبا أيضا لوجهها الدائري، فجميعنا اعتدنا على مشاهدتها فى أعمالها السابقة بتسريحات مختلفة لشعرها ومكياج مميز، لكنها هذه المرة اكتفت بالبساطة والرقة من خلال "رسايل" شفافة فى كشفها وانحيازها لغلبة الخير على الشر، ومن هنا نلاحظ دائمًا ظهورها بمكياج خفيف، وقد اكتفت فى كثير من الحلقات بوضع الروج فقط، واختيار الملابس المتناسقة وألوان الحجاب الزاهية مع إضافة لمسة جمالية باختيار مميز للإكسسوارات، الأمر الذى جعل "مى عز الدين" تحمل فى طياتها جميع موازين البطولة النسائية، حيث تناول مسلسلها أفكار تبدو غريبة فى جوهرها العام على الدراما المصرية هذا العام.
لابد لى من التوقف قليلا أمام الذين أجادو فى هذا العمل وعلى رأسهم بالطبع "مى عز الذين" فى ذهابها بنا نحو عوالم روحانية مغايرة مستمدة من خيال المؤلف، لكنها جسدت شخصية "هالة بديع" على نحو يكتب لها الإجادة، وتمتعت بقدر من الكفاءة واللياقة والسيطرة على أدواتها وخصوبة خيالها ومهاراتها الأدائية المتنوعة، بحيث كان المشاهد يشعر بأنها صادقة إلى حد بعيد فى كل الأحوال، وهنا تكمن الموهبة، تلك الموهبة التى أدركت من خلالها الفرق بين قيمة غريزة التثميل التى تشعر بها، وبين من لم يبال بتلك الغريزة، فإنها ببساطة تتمتع بتلك الغريزة، ومن ثم لا تلجأ إلى طمسها أو الإستحياء منها، فربما هى التى تميزنا سلوكا عن باقى الكائنات، وفى حالة استثمار هذه الغريزة فإنه لا يجب ألا أن تأخذ الأمور ببساطة وسطحية بحكم أنها جزء من طبيعتنا، ولكن يجب بذل المجهود والعمل على تطويرها وتوظيفها بالشكل السليم تماما كما فعلت "مي" فى كل حالاتها طوال حلقات المسلسل.
ولعله يبدو واضحا حسن الإداء موفورا للنجم الشاب "أحمد حاتم" الذى بلغ مرحلة النضج الكامل فى هذا المسلسل بأداء احترافى غير معهود، حيث أصابه التوفيق فى أن يرتقى بالشخصیة ، وضبط حركاتها، وأن یلتقط ھذه الصور المتعددة لشخصية "سامح" ویحولھا إلى شفرات خاصة دفعت بالأداء التمثیلى إلى حالة من حالات الخلق والإبداع على نحو فعال وحيوى فى حركة الأحداث، وهو ما يعكس امتلاكه قدرة تعبیریة استثنائیة تتجاوز حدود المألوف، ويدرك جيدا أنه يجب على الممثلين أن يلمّوا بالعواطف والمواقف والدوافع الإنسانية حتى يتمكنوا من القيام بأدوارهم جيدًا، وأن يكونوا قادرين على التعبير عن هذه العناصر حتى يتم للمشاهدين فهمهم، ولقد أثبت حاتم فى مسلسل "رسايل" إنه ممثل جيد يبنى فى نفسه عادة ملاحظة الآخرين وتذكر طريقة تصرفهم، وكيف يقفون وكيف يجلسون، بعدها، ومن ثم فقد أمكنه ذلك من تطبيق هذه الحركات لتتماشى مع الشخصية التى أراد تجسيدها، وكيف يصل بالمشاهدين إلى أنواع مختلفة من العواطف (مثل السعادة والحزن والخوف) بطُرق مختلفة، تماما كما جاء فى أدائه طوال أحداث مسلسل يتسم بالغرائبية والخيال الجانح نحو عالم الأحلام.
يبقى التنويه إلى تلك اللفتة الإنسانية الطيبة من جانب صناع هذا العمل وذلك بتكريمهم فى تتر المسلسل الأديب الراحل "أحمد خالد توفيق"، حيث ينتمى المسلسل إلى نوعية كتاباته عن تلك العوالم الخفية، وهو ما كان مفاجآة سعيدة لجمهوره، خصوصا أنه ليس مؤلف العمل ولا دخل له من قريب فى العمل، وقد وجد هذا الإهداء صدى إيجابيا واسعا مع أول حلقات المسلسل واعتبره جمهور المشاهدين لفتة إنسانية كبيرة من صناع العمل، كما أنه جدير بنا توجيه الشكر للمنتج الكبير "تامر مرسى"، الذى أبدى جرأة غير معهودة بإنتاج هذا العمل الدرامى المختلف شكلا ومضمونا، والذى على ما يبدو إنه قد جازف بوضعه فى قلب خارطة مثقلة بالأعمال والنجوم الكبار، ليثبت أنه على قدر كبير من المسئولية والاحترافية فى صناعة دراما عصرية ومغايرة، كما أنه فى نفس الوقت يعكس تمتعه بثقافة عالية المستوى، الأمر الذى يدفعه لتلبية كل متطلبات النجم ، فضلا عن الشىء الأهم وهو الثقة فى بطل العمل، وهو ما فعله مع النجوم: مى عز الدين فى "رسايل"، وغادة عبد الرازق فى "ضد مجهول" و أمير كرارة فى "كلبش"، وهانى سلامة فى "فوق السحاب" ومصطفى شعبان فى "أيوب"، وغيرهم ممن حظوا برعاية "سيرنجي" هذا العام.. فتحية تقدير وإحترام له ولكل فريق عمله.