من أبرز نتائج الرأسمالية المعاصرة التى لا تنكر ارتفاع مستوى معيشة الطبقة العاملة من سائر الوجوه، خلافاً لفرضية الاشتراكيين فى نظرية "البؤس مطرد الزيادة"، فقد تسلح مؤيدو النظام الجديد بهذه الظاهرة، وراحوا يرفضون أى فكر سابق لهم، بحيث يرون أنه فى ضوء الإيمان برفع مستوى معيشة العمال والفلاحين الباقية، وأنه لا ميل إطلاقاً لدى الرأسمالية المعاصرة نحو إبقاء الأجور فى حدود الكفاية والرمق، ولا احتجاز للنسبة العظمى من فائض الربح المتناسى، كى ينفقها الملاك أو يكنزوها على هواهم دون حصول العمال على حصة عادلة منها.
وعلى الرغم من هذا الفكر الجميل إلا أنه لا يساوى قيمة الورقة التى سودته، وذلك لأنه بالبحث والتجربة كشف لنا على مدار السنين، أن ما كان للعمال أو الفلاحين من تحسن فى حياتهم المادية أو المعنوية إلا بفضل نضال متصل مرير، ومجهودات نقابية مضنية، وضغوط سياسية عنيفة استمرت أكثر من قرن من الزمان، وليس من خلال عملية آلية تلقائية يقوم بها النظام الرأسمالى المعاصر من ذاته كما يلوح إشباع الفكر الرأسمالى الجديد .
فقد ارتفع مستوى حياة العمال "قسراً" عن النزعات التقليدية فى النظام الرأسمالى، إذ لا يمكن تصور شىء أقل أوتوماتيكية من العملية التى تمت فعلا، وما أبعد أن يكون ذلك الارتفاع قد نتج عن آلية ذاتية مركبة فى النظام الرأسمالى المعاصر، إنما فرض ذلك الارتفاع عليه فرضاً، بقوة الاتحادات العمالية، والضغط السياسى فى نفس الوقت، رغم معارض الرأسمالية (على غير ادعاءاتها) فى هذا الصدد، من الناحية العملية أو حتى النظرية، حيث جلا ذلك واضحاً فى كل السياسات الاقتصادية الرأسمالية والتى ظل الناس أنها ستضاعف نصيب العمال فى الدخل القومى إلا أنها لم تزد على أن مكنتهم من الإبقاء على معدل حصتهم ثابتة، ورفعها درجة تتناسب مع الزيادة العامة فى الثروة الوطنية ولكن بنسبة أقل بكثير من معدل ارتفاع الأسعار.
وكلما أطلنا البحث فى المسألة العمالية وضح لنا أن فى طبيعة النظام الرأسمالى ميلاً أصلاً إلى حجز كامل الثروة بين يدى طبقة صغيرة من الملاك، وهو ما ظهر فى التطبيق على عكس ما نصت عليه آراء المفكرين الاقتصاديين الرأسماليين المستنيرين.
والحق أن أى إنجاز قد تحقق للعمال أو الفلاحين فى القرن الماضى وبقى أثره ممتد إلى الآن لا يعود بأى شكل من الأشكال إلى النظام الرأسمالى الجديد أو المعاصر، بل إلى القوة المضادة، وهى قوة الحركة العمالية العالمية والضغط السياسى.
وما تم من كبح هذا الميل الجارف، المتمثل فى المجتمعات الرأسمالية المتقدمة من استغلال للعمال والفلاحين، لا فى غيرها، بفضل قوى غير اقتصادية فى الأصل، تجاوز نظر المفكرين وجودها فأغفلوها وهى القوى النقابية، والتى نشأت لحماية حقوق العمال والفلاحين وتحقيق العدل الاجتماعى والاقتصادى والسياسى.
• أستاذ الاقتصاد السياسى والمالية العامة – جامعة القاهرة.