هو بلا شك أفضل عمل درامى عالج الإرهاب فى رمضان 2018 على مستوى الشكل والمضمون، ما جعله مجازفة كان لابد منها، ولأنه حقق نجاحاً معقولاً فى قلب هذا الموسم الذى يتسم بالأكشن والإثارة، فإنه يعد نقطة تحول فى الدراما المستقبلية التى ستكون سبباً فى حماسة المنتجين لهذه النوعية من التجارب، وإبراز جيل جديد فى أدوار البطولة لمجاراة ما يحدث فى السوق الإنتاجية، وذلك على الرغم من بعض فوضوية الأحداث التى تلحظها فى البداية خلال متابعتنا لأحداث مسلسل "مليكة"، حيث كنا دائما بحاجة إلى ورقة وقلم كى نستوعب من يحب من، فضلا عن أسماء الشخصيات المتداخلة والمتشابكة إلى حد كبير، وفوق كل ذلك طريقة "الفلاش باك" المتبعة فى الحلقات، والتى تنقلك بين ماضى وحاضر الأحداث طول الوقت، وهو الأمر الذى جعل المشاهد يتوقع أحداثاً غنية، ولكنها جاءت على العكس تماماً فى بعض المواقف.
ظنى أن مليكة يعد محاولة مغايرة، من حيث الأداء والاجتهاد، من جانب الفنانة "دينا الشربينى" فى أول تجربة بطولة مطلقة لها، حيث وصلت إلى حد الاحتراف المطلوب فى تحمل المسئولية بجوار عدد من الممثلين حولها، والذين أجادوا بصدق فى تجسيد شخصيات محورية فى قلب الأحداث، ومنهم "محمد شاهين فى دور "الدكتور سعيد"، و"هادى الجيار فى دور "رئيس الأمن الوطنى"، ومجدى بدر فى دور "عقيد فى الأمن الوطنى" وأحمد العوضى فى دور "رائد الأمن الوطنى" وحتى "رامز أمير" فى دور الإرهابى مفجر حفل الزفاف، وهو ما يعكس شطارتها كممثلة ومهاراتها التمثيلية العالية التى كانت واضحة فى كل الأعمال التى شاركت بها من قبل، وربما رأى البعض أنها أخطأت حينما قبلت خوض البطولة المطلقة بمسلسل "مليكة"، وبالتالى عليها ألا تتعجل البطولة المطلقة، وألا تفكر فى مسلسل يتم تفصيل الدور عليها هى فقط، بل عليها أن تستمر لفترة تقدم فيها أدورا درامية تناقش قضية اجتماعية مهمة، مثلما فعلت فى "جراند أوتيل"، حيث استخرجت من خلال شخصيتها بالمسلسل ملكاتها الفنية على نحو جيد، واتهمها بعض من الجمهور بأن مسلسل "مليكة" تم عمله مجاملة لدينا الشربينى، وتصعيد دينا الشربينى كبطلة ليس فى صالحها على الإطلاق الآن، فليس كل ممثل نجح وأثبت وجوده يتم تصعيده وبالضرورة ينال دور البطولة.
إلا أننى أرى أن "دينا" نجحت فى اختبار البطولة الأولى، رغم أن هنالك حقيقة مهمة وهى أنه من الممكن أن تصلح أن تكون بطلة وتلعب دوراً ثانياً وتنجح، وهذا ليس عيباً، ولدينا عدّة أمثلة على ممثلين موهوبين كانوا يلعبون أدوراً ثانية، وأثبتوا تفوقاً فاق أدوار البطولة لممثلين آخرين، مثل الراحل "خالد صالح" - رحمه الله - كان لا يقوم العمل إلا بوجوده تقريباً، وعندما منح فرصة البطولة نجح فيها، وأيضا يحفل التاريخ الفنى المصرى بنماذج كثيرة، مثل "محمود المليجى وتوفيق الدقن، وزكى رستم"، وغيرهم عملوا أدورا ثانية وعظيمة وهم فى "دور ثانٍ"، وتبقى أزمة الجيل الجديد أن كل ممثل ينجح يتم تصعيده ويأخذ دور البطولة دراميا، وتلك كارثة كبرى، لكن دينا تجاوزت بمسلسل "مليكة" تلك الأزمة التى حدثت فى مسلسلات "الوصية، وربع رومى، وسك على إخواتك"، وغيرها من المسلسلات الضعيفة فنيا فى هذا الموسم، لسبب بسيط هو أنك تأتى بممثل شاب نجح العام الماضى ولا يستطيع أن يتحمل مسئولية عمل بمفرده ثم تأتى بممثلين أضعف منه ليسندونه؛ فتكون النتيجة مسلسلاً هشاً ومساحات كبيرة لممثلين لم يستطيعوا ملئها، وهو على عكس "مليكة"، الذى حظى بمعدلات كبيرة فى حسن أداء غالبية الممثلين.
وللحق فقد فجأتنى "دينا الشربينى" عندما جسدت واحدة من أكثر الشخصيات صعوبة تمثيلياً فى دراما رمضان، لأنها مركبة ومعقدة جداً وتحمل بداخلها مشاعر وأحاسيس متناقضة نتيجة ما تعرضت له من حادث أليم، كما تكمن صعوبة التمثيل فى كونها تجسد شخصيتين فى شخصية واحدة، فمن حيث الشكل تعيش بشخصية، وتفكر وتحس بشخصية أخرى، وهذه مفردات شكلت لها بالتأكيد تحديا وصعوبة فى الأداء لكنها نجحت إلى حد كبير، عندما أظهرت النجمة الصاعدة قدرات تمثيلية خاصة، واعتمدت على تعابير وجهها ونظرات عينيها وإحساسها الداخلى، ولعلها توجت ذلك فى إحساسها الكبير عبر مشهد الحلم الذى تواجه فيه آية مليكة، ويدور بينهما حديث من أكثر المشاهد صعوبة، ومن ثم استطاعت "الشربيني" أن تلفت الأنظار إليها، إذ قدمت شخصية مميزة فى مسلسل توالت خلاله المفاجآت حلقة تلو الأخرى، حين تظهر "مليكة" الشخصية الهادية والرقيقة والتى لا ترفض لوالديها طلبا وتطيع أوامرهما بدون اعتراض، وبعدها تظهر شخصية "آية" التى تقوم بالكثير من التصرفات المعاكسة مثل التدخين، وارتداء الملابس المكشوفة، والاعتراض على جميع الأوامر من جانب المحيطين بها.
أبدى بعض متابعى مسلسل "مليكة" استياءهم من ملابس دينا الشربينى، لأنها لا تتلاءم مع طبيعة الأحداث مما يفقد المصداقية للعمل، ومن وجهة نظرى النقدية أن ذلك ليس صحيحا بالمرة، فلم يفقد العمل مصداقيته على مستوى معالجة قضية اجتماعية ترتبط إلى حد كبير بظاهرة الإرهاب فى مصر، بل اتسمت المعالجة بالدقة والحرفية الشديدة فى طريقة الإيقاع بشبكات الإرهاب من جانب الأجهزة الأمنية، وكذلك الكشف عن خلية إرهابية، ومع توالى الأحداث نكتشف مكامن الخلل من خلال حيثيات ووقائع شيقة بالفعل، كما أنه أظهر بطولة لأجهزة الشرطة التى تحارب تنظيماً فكرياً متطرفاً، يعتمد التفجيرات أسلوباً له دون أى اهتمام بالضرر البالغ الذى تخلِّفه، وبالتالى فإن ملابس "دينا" على جرأتها وخروجها عن السياق العام لم تنل من أهمية المسلسل، فى ظل أنها تمثل دور فتاة تعيش فى مستوى اجتماعى عالٍ وملابسها تعكس طبيعية معيشتها، لكن يبقى مأخذا واحدا على أن العمل تبدو بنيته الدرامية فى ظاهرها ضعيفة لأنه بمجرد إجراء تحليل الحامض النووى للبطلة "دينا الشربينى" يمكن التعرف على شخصيتها الحقيقية، وبالتالى جاءت بعض الحلقات عبارة عن حشو درامى، إذ تدور الأحداث حول إحدى الفتيات التى تحضر حفل زفاف مع ابنة خالتها، ويحدث انفجار مدوٍ تموت على إثره إحداهما فتتقمص الأخرى شخصيتها، وتعيش حياتها فى توتر وقلق، ومع ذلك تتمتع بقدر من الجمال والنضارة، رغم أنها من المفترض أصيبت بحروق شديدة وتم إنقاذها من الموت.
وإذا بحثت عن إيجابيات مسلسل "مليكة" فلا شك أن الإيجابية الأولى هى البطولة الأولى لـ"دينا الشربينى" والتى وضعتها على سلم النجومية بأمان، فالعمل بلا أدنى مبالغة وضعها فى مقدمة نجمات الدراما، وهنا لا بد من الإشادة بالمنتج الجرئ "تامر مرسى"، وشركته "سينرجى" الذى وثق فى موهبتها، فتحمس لها، وأنتج لها هذا العمل، والذى حقق نجاحا ملحوظا بفضل الأجواء الغامضة والإثارة التى صدرها صناع العمل للجمهور منذ المشهد الأول للمسلسل، وبالنظر إلى الأعمال التى قدمتها "دينا الشربينى" للشاشة الصغيرة، سنجد السمة الأساسية لها هو التغيير المستمر والاختلاف فى كل عمل تقدمه، فقدمت فى بدايتها مسلسل "عرض خاص"، ثم قدمت "المواطن إكس"، ثم "طرف ثالث" مع نفس فريق "المواطن إكس" ومسلسل "روبى"، كما قدمت واحدا من أهم أعمالها الدرامية وهو مسلسل "حكايات بنات" الجزء الأول، وظهرت بشخصية سلمى المشاغبة، ثم مسلسل "تحت الأرض" و"موجة حارة" و"جراند أوتيل" و"أفراح القبة" و"حكايات بنات" الجزء الثانى، والعام الماضى مسلسلى "عشم إبليس" والمسلسل الكوميدى "خلصانة بشياكة"، وهو ما يؤكد قوتها وثباتها كممثلة تجيد تطوير أدواتها فى فن التجسيد الحي.
أما النقطة الإيجانبية الثانية فتتمثل فى اختيار قصة المسلسل وملاءمة العمل لـ "دينا" والذى سهل المهمة وساهم فى إنجاح العمل منذ البداية، فالسيناريو الذى كتبه السيناريست محمد سليمان عبد المالك يمكن وصفه بـ"الصعب" أو المركب، حيث تميز ببناء درامى محكم فى سياقه العام، ورغم بعض الهنات إلا أنه يبقى بعيدا عن المبالغات أو الأحداث غير المنطقية، بل إنه تمتع بتسلسل فى الأحداث، مع الحفاظ على ضرورة استمرار جذب المشاهد بغموض ما زال مستمرا حول الشخصية الرئيسية فى الأحداث هى "مليكة أم آية"، وهو السؤال الذى حير ملايين المشاهدين، وفى نفس الوقت فإن الدور معقد للغاية، لذا كان مطلوبا من "دينا" أن تبذل مجهودا مضاعفا، ليشعر الجمهور بحيرتها، ونجحت بالفعل فى التعبير عن ذلك بانفعالات داخليا وخارجيا وصلت للمشاهد بتلقائية، كما يحسب لهذا المسلسل أيضا هو مشاركة كم كبير من نجوم الدراما الكبار، على رأسهم، مصطفى فهمى، صاحب الأداء السلس والمقنع، ومعه كل من محمد شاهين وآية سماحة وندى بسيونى وصفاء الطوخى، وعمر السعيد ورامز أمير وهادى الجيار وياسر على ماهر، ومجموعة أخرى من الفنانين المبدعين، وخلف كل هذا مخرج متمكن للغاية من أدواته وهو شريف إسماعيل، وبالطبع كان كل هذا تحت إشراف المخرج أحمد نادر جلال.
جدير بالذكر أن هنالك من تألقو فى أدائهم على نحو احترافى تميز بإبداع حقيقى مثل "محمد شاهين" الذى برع فى تجسيد شخصية الدكتور "سعيد" بشكل يؤكد أن معرفته الإبداعية وحدها هى التى قادته إلى الصدق، فلقد نجح فى تشكيل جوهر التقاليد التقدمية لفن التمثيل، والتى مكنته بالضرورة إلى التوصل إلى الأساليب الخاصة والقدرة على المرونة التى تساعده فى التجسيد والمعايشة للشخصية التى تحمل تركيبة نفسية معقدة للغاية، وشيئا من هذا القبيل نجده فى أداء القدير "ياسر محمد على" فى ذهاب متقن عبر شخصية الأب الحنون الذى يحمل بداخله قلقا دائما على كشف أمره فى التورط مع الخلية الإرهابية وذلك بخلق المقدمات السيكولوجيه اللازمة لولادة الدور بصورة عفوية دون اللجوء الى الايماءات والوسائل المستهلكة، كما لفت نظرى أيضا الأداء الناعم والسلسل جدا لشخصية "رئيس الأمن الوطنى " هادى الجيار، فى التعمق فى كل لحظة من اللحظات لتأدية الشخصية بملامحها و حركاتها و حواراتها و إيماءاتها و نظراتها، فقد كان الإنتباه و التركيز التام يمثلان علامة بارزة فى أدائه ،لأن التركيز والإنتباه مطلوبان للممثل فقد كان حريصا على أن ينتبه لكل لفظ وكل حركة يؤديها.
أما مجدى البدر فقد نضج فى أدائه لدوره " عقيد الأمن الوطنى " والذى جاء بشكل متقن، وبعيدا المبالغة، بل إنه امتاز بعقل و جسم نشيط، بحيث كانت دائما تكمن القوة الديناميكية لتكوين الشخصية فى هذا العقل والجسم النشيط، وكان يتوافر لديه الإحساس و قوة التركيز للأفكار وقوة التذكر للحركة الجسمانية التى مكنته من أن يعيش فى الدور ويتسلل تحت جلد الشخصية، وكذلك " أحمد العوضى" حيث كانت له المقدرة على إيجاد العلاقات الذهنية و منطقية الإحساس الذى توفر لديه فى تجسيد دور "رائد الأمن الوطني، فلقد أخلص للدور الذى يؤديه ،كما أنه عاش فى مجتمع الدور و بإحساس صادق، و حاول طوال الوقت الوصول إلى أكبر درجة من الإتقان، والذى على أساسه يمكن تحديد قوة الممثل أو ضعفه أو ما يسمونه بالموهبة الفنية، والتى توفرت بشكل كبير لدى "أحمد العوضي" فى هذا المسلسل وكثير من أعماله السابقة.