كنت قد تحدثت فى مقال سابق عن وسائل العدالة الاجتماعية فى الإسلام, وبدأت بالزكاة كركن من أركان الإسلام وأتت بقوة التشريع فى كل الأديان , واليوم أكمل الوسيلة الثانية وهى الصدقات والتى هى موكوله لضمير الفرد بلا حساب إلا أن الإسلام عنى بها كل العناية , واعتبرها المحقق للترابط الانساني, والتكافل الاجتماعى والمكمل لفكرة العدالة الاجتماعية والانسانية الشاملة .
الدين الاسلامى يجعل من التراحم, حقاً انسانياً لأنه لا يتعلق بدين ولا ملة, ولا تعوقه عقيدة ولا شريعة . جاء فى القرآن الكريم:" لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِى الدِينِ ولَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وتُقْسِطُوا إلَيْهِمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ ( الممتحنة8) .
فالإسلام يشمل بالرحمة كل حى حتى الحيوانات, قال النبى :( دخلت امرأة النار فى هرة ربطتها , فلم تطعمها, ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض) صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فالرحمة فى الإسلام أساس الإيمان وعلامته ، ودليل تأثر الضمير بهذا الدين وتغلغله فيه.
حيث يشترط فى "الصدقة" و "البر" أن يكونا طوعاً واحتساباً ، وابتغاء لمرضاة الله وثوابه واجتناباً لغضبه ونقمته وعذابه ، فالصدقات قرض لله مضمون الوفاء " مَن ذَا الَّذِى يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ ولَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (الحديد 11) وهى تجارة لن تبور ، وهى مخلفة وليس فيها خسارة أبدا ؛ " ومَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إلَيْكُمْ وأَنتُمْ لا تُظْلَمُونَ (البقرة 272) .
والصدقة تطهير للنفس والمال ، كما أن الامتناع عنها فى سبيل الله هلاك ، والبر يؤدى بصاحبه إلى الجنة ، كما أن الكف عنه يفضى به إلى النار ، فقد حارب الإسلام أيضاً الاكتناز والامساك عن الإنفاق فى أوجه البر فجاء قوله تعالى ؛ " والَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ والْفِضَّةَ ولا يُنفِقُونَهَا فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (التوبة 34) .
وأبواب البر والإنفاق فى سبيل الله تحددها الحاجة ، فالأقربون أولى بالمعروف أولاً ، ويتصل بهم الجار والصاحب ، كما يتصل بالجميع اليتامى والمساكين وابن السبيل ، كلهم سواء فى الاستحقاق. ويستحسن فى الصدقة والبر اخفاؤهما حفاظاً لكرامة المعوزين من جهة ، ومنعاً للاختيال والفخر من جهة أخرى: " إن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِى وإن تُخْفُوهَا وتُؤْتُوهَا الفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ويُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ واللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ" (البقرة 271) .
وعلى هذا النهج يسير الدين الإسلامى فى طريقه إلى تحقيق "العدالة الاجتماعية والانسانية الشاملة" ، مخاطباً الوجدان للإقناع بالتكليف ، وللسمو فوقه ما استطاع ، يوفع بالحياة الانسانية ويجذبها دائماً بخيط الصعود إلى الأسمى ، ويدع المجال واسعاً بين الحد الأدنى المطلوب ، والحد الأعلى المرغوب ، يتبارى فيه الأفراد مجتمع الخير ، على مدى الأزمان والقرون للوصول إلى العدالة فى أرض الله .
•أستاذ الاقتصاد السياسى والمالية العامة – جامعة القاهرة .