تبدو لى تجربة مشاهدة المسلسل الإسرائيلى "فوضى" استثنائية بالفعل، فهو فى واقع الأمر عبارة عن فوضى عارمة فى قدرته على تسخيف التاريخ الفلسطينى المعاصر، وذلك بتحكم الفكر الصهيونى فى المسار الحقيقى للأحداث التى تنحاز بشكل فج لكل ما هو إسرائيلى فى فهمه للحاضر ومنطلقات الصراع، وكذلك استغلاله للدراما الرخيصة فى فعلها الرجيم، خاصة أنه يتعامل مع حكاية كبرى كحكاية الاحتلال الفلسطينى من وجهة نظر العدو الإسرائيلى الجاثم على الأرض ومقدرات شعب يعيش تحت المعاناة اليومية، فضلاً عن الكثير من المزالق الدرامية المصنوعة بيد الاحتلال، وذلك عبر التناقضات التى تحفل بها مسارات الأحداث التى لا تنقذها فى غالب الأمر سوى بعض مشاهد العنف الرامباوية، نسبة لشخصية رامبو فى سلسلة الأفلام الأمريكية الشهيرة، وتلك المشاهد قد ينشغل المشاهد العربى بضجيجها كثيرا عما فى جوف الإناء من سموم إذا ما اكتفوا بزخرفاته الخارجية.
تلخص أحداث المسلسل ما يدور اليوم ظاهريا على الأرض المغتصبة، وما دار أمس بعد إضافة بعض الرتوش لتشويه وجه فلسطين، ذلك الوطن المسلوب بصراع مصطنع بين شخصية " دورن " قائد وحدة للمستعربين، أولئك الذين يتخفون بلباس فلسطينى لتنفيذ عمليات الاغتيال والاعتقال، مقابل شخصية الفلسطينى القائد "توفيق حامد"، وهو عبارة عن شخصية متخفية بعد محاولة اغتيالها، لكن الشك الاستخباراتى الإسرائيلى فى أنها لم تزل على قيد الحياة يظل محور المطاردات والعلاقات المتشابكة فى ثنايا هذا المسلسل، وهنا تبدو ثمة بطولة استثنائية فى الشخصيات الصهيونية على مستوى التخطيط والتنفيذ، حيث يظهر بنوع من الصلابة حين يتم القبض عليهم من قبل الفلسطينيين، مقابل سذاجة غير عادية فى الشخصيات الفلسطينية، فتوفيق حامد "أبو أحمد"، الذى جاء طبقا لأحداث المسلسل المصنوع بأيدى أثمة - بهدف زعزعة الثقة فى الإنسان الفلسطينى - هو ذلك القائد، مد من شيكولاتة، عصبى المزاج، والذى لا يتمتع بأى حس أمنى، وفى نفس الوقت يحول القضية بأكملها إلى ثأر شخصى، يمكن أن يتم خداعه ببساطة، حتى إنه يكلف رئيس وحدة المستعربين الذى يطارده شخصياً بالقيام بعملية انتحارية، قبل أن يتأكد من شخصيته، وهو قابع فى أماكن اختفائه، لا يفعل شيئاً فى الحقيقة، ولولا وجود شاب من التنظيم "وليد العبد"، وهو بحسب رؤية المؤلف الكاتب الصحفى الإسرائيلى "آفى يسخاروف"، ذلك الشاب الذكى، ولكنه فى ذات الوقت شخصية غير ناضجة، ويلعب دورا أكبر من مؤهلاته النفسية والجسدية والعسكرية، لولا هذا الشاب لكان المسلسل انتهى فى الحلقة الثالثة أو الرابعة، لأنه من يجبر قائده على تغيير مكانه دائما، وتغيير مكان الأسير الإسرائيلى الصلب الذى لا يقهر.
يتحدث المسلسل، الذى تدور أحداثه باللغتين العربية والعبرية، عن الصراع "الإسرائيلى - الفلسطينى" فى وقت تتساقط فيه كل شخصية فلسطينية يتم القبض عليها، فالشيخ، الأشبه بالمرشد الروحى، السياسى، يسقط ويعترف بمكان "أبو أحمد"، وزوجة الأخير تتخلى عنه لتهرب مع أولادها إلى ألمانيا بتسهيل من مطاردى زوجها، والطبيبة الفلسطينية قابلة لأن تُخدع ببساطة، والوسيط بين الحركة وقيادتها فى "عمان" ينهار بعد سؤالين فقط، ويعترف للمحقق فى حوار أشبه ما يكون على فنجان قهوة: "إذا حكيتلك.. بتحفظ السر؟!" وصديق القائد التاريخي، يقودهم إلى مكانه لأن الإسرائيليين يعدونه بزرع كلية لابنته، ورأى الشاب المقاتل "وليد العبد" فى كل المعتقلين والأسرى "كلهم يعترفون!" فى وقت يبدو فيه وليد هذا قابلا وبسهولة للتخلى عن كل شيء، مقابل إنقاذ الطبيبة الفلسطينية، التى خدعها "دورن" قائد الوحدة، وأصبح عشيقها!..هى إذا "فوضى" عارمة، وكلمة "فوضى" مشتقة هنا من الفوضى التى يحدثها المستعربون كلما قاموا بتنفيذ عملية، ليسهل تنفيذها وتسهل نجاتهم بحسب الأحداث التى تنحاز بالضرورة للإسرائيلى المعتدى على حساب الفلسطينى صاحب الحق التاريخى فى الأرض محور الأحداث.
ظنى أن مسلسل فوضى، بتركيبته الدرامية المصنوعة بأيدى صهيونية، استطاع أن يستفيد كثيرا من طريقة عمل وحدات الاغتيال والاختطاف، فى زرعه فوضى كبيرة فى رؤوس مشاهديه، فلا تاريخ هنا فى المسلسل يمكن الاستناد إليه، ولا جذور للقضية الفلسطينية العادلة من الأساس، فقط هنا مجموعتان تخوضان صراعًا، لا يختلف عن أى صراع فى فيلم من أفلام عصابات المافيا، عبر عمليات من القتل المنظم، والتهديد، والإغواء، والثأر الشخصي، على جناح العنف والحركة والجنس والمؤامرات التى تفضى إلى إسقاط؛ ثم صلابة، وبطولة، وهما مقصورتان على أفراد وحدة المستعربين دون غيرهم من عناصر العمل، إذا ما استثنينا العلاقات اليومية، العاطفية والتنظيمية، بينهم، أما الآخرون "الفلسطينيون" فهم إرهابيون بكل ما تعنيه الكلمة، وغير إنسانيين إلى درجة أن القائد الفلسطينى المتخفي، لا يتردد فى إعطاء الأمر بتفجير الأسير الصهيوني، مع أن ابنته الصغيرة التى اختطفتها المجموعة الصهيونية لتهديده، يلتف على وسطها الصغير حزام ناسف ثبته المستعرب الصهيوني" دورن "، ولنصل إلى أن زوجته مقابل علاج الصغيرة فى مستشفى "هاداسا" الإسرائيلي، تتخلى عن زوجها وفلسطين كلها، وتهاجر إلى ألمانيا تاركة أرضها ومقدرات وطنها فى مهب الريح!.
ومن هنا يصبح مسلسل "فوضى"، نموذجا مثاليا حقا فى صهيونيته ودعائيته المكشوفة التى تسخف الشخصية الفلسطينية وتشيطنها، كما إنه من الأشياء المحزنة حقا، هو وقوع عدد من الممثلات والممثلين الفلسطينيين فى فخ القبول بلعب أدوار فى هذا المسلسل المفضوح، بحيث لا يمكن لسذاجة أى منهم، إن كانت موجودة، أن تكون عذرا للمشاركة فى هكذا مسلسل يرسخ لمعاداة الفلسطينيين أصحاب الأرض، ولكل ما هو فلسطيني، حيث يعرض المسلسل الفلسطينيين ومقاومتهم ويضعها فى قوالب ساخرة مختزلة فى معظمها، تفتقر للخطاب الوطنى والأخلاقى والسياسيّ، وتحولها أكثر إلى "مليشيا" أو "مافيا "إجرامية تفتقد للأخلاق والمبادىء، وبهذا يساهم المسلسل فى تشويه الوعى العربى والفلسطينى حيال المقاومة والعمل الفدائى الفلسطينى وتاريخه.
يحاول هذا المسلسل الصهيونى النزعة والعقيدة، استنادا إلى العناصر الدراميا الأكثر تأثيرا فى المشاهد، أنسنة المستعرب وأنسنة الفلسطينى الفدائى فى ذات الوقت، وفى تواز غير مخل يدعى كاتبوا المسلسل أنه مسلسل "أكشن" لا يحمل أى بعدٍ سياسى أو أيديولوجي، هذا بالنسبة للمشاهد من وجهة نظر "لسخاروف" القاصرة، ومن خلال عمله 15 عاماً، فى تغطية الشأن الفلسطينى للإذاعة الإسرائيلية العامة، وصحيفة "هآرتس"، ولاحقا موقع "والا" الإخباري، وما تخللها من لقاءات مع مسؤولين فى السلطة الفلسطينية وحماس، وآخرين فى الجيش الإسرائيلي، إضافة إلى مواطنين فلسطينيين، فقد اختزن "لسخاروف" فى خياله الكثير من القصص التى تمنى أن تترجم فى مسلسل، ويقول: "كانت هناك العشرات من التقارير المصورة التى تتحدث عن المستعربين والمطاردين، ولكنها المرة الأولى التى يتم فيها ترجمة هذه العلاقة الدموية فى مسلسل"، ولذلك فقد صور البطل على إنه مجرد جندى فى وحدات المستعربين يعود بعد انتهاء دوامه إلى بيته بين امرأته وأطفاله، لديه كرمة عنب، ويعمل فى صناعة النبيذ، يهتم بأبنائه، ولديه مشاكل مع زوجته، وغيرها ذلك من يوميات البشر العاديين، ومن ثم يحاول المسلسل بذلك تقديم حياة طبيعية لأناس غير طبيعيين، كما تتلخص مساهمة المسلسل الرئيسية حتى وإن كانت عن غير قصد، فى تحويل المستعرب إلى إنسان يمارس حياته بشكل عاديّ، له مشاعر وأحاسيس، ويقع فى حب الفتيات، وآخر صاحب نكتة، وآخر له أطفال يذهب للتنزه معهم، وله زوجة يتخاصم معها، فهناك صراع دائم ونقاش حادّ فى موضوع مشاركة البطل فى وحدات المستعربين، كون زوجته تقلق على مصيره وعلى العائلة الصغيرة .
هذه الصور تساهم فى التقليل من حدة النظر والتعامل مع الجنود بشكل عام، وتعطى صورة طبيعية أخلاقية وإنسانية للإجرام تحت شعار حماية "إسرائيل"، ويحضر مثل هذا النموذج الدرامى بقوة فى المسلسلات الأمريكية، مثل مسلسل "ديكستير"، الذى يعطى للممثل البطل شكلًا إنسانيًا رغم كمية الإجرام والدماء المستباحة، ومن جهة أخرى، فإن عملية أنسنة المستعرب أو الجندى لها بعدان، البعد الأول يدور فى فلك الترويج أن المستعرب "إنسان" فى نهاية الأمر، وذلك لإبطال وصفه بالقاتل والمجرم، وكشكل من أشكال تحصين المجتمع الصهيونى داخليًا وخارجيًا، أما البعد الثاني، فهو بعد يحمل خطاباً إلى الفلسطينى، مطالبًا إياه بتغليب قلبه على عقله فى التعامل مع "الإسرائيلي"، بكلمات أخرى، يقول المسلسل للفلسطيني: "لا تستسهل فى قتل اليهود، فهم أيضًا لديهم عائلات وأبناء ومشاكل مثلك تمامًا"، وهذه الصورة، تعطى دلالة للفلسطينى على أن "الإسرائيلي" ليس مجرد شخص يحمل السلاح وينوى قتله، وأنه كائن معقد، والقصد من وراء ذلك خلق صعوبة فى المواجهة والإستهداف بين الطرفين فى المستقبل.
تمثل عملية كتابة سيناريو مسلسل "فوضى"، وإخراجه إلى حيز النور، عملية علاجية درامية لكاتبى هذا السيناريو الأساسيين، وهو ما يسمى "بسيخودراما"، فـ"ليؤر راز" و"آفى ايسخاروف" قد خدما سابقاً فى وحدات مستعربين ارتكبت جرائم بحق شعبنا الفلسطيني، وقد خدم "ليؤر راز" تحديداً فى وحدات النخبة لجيش الاحتلال، كما أنه خدم فى وحدات المستعربين والوحدات الخاصة فترة الانتفاضة الثانية، وقد تعرض خلال مشاركته فى قمع الانتفاضة الثانية إلى العديد من المواقف خلال الاقتحامات والعمليات الخاصة التى أثرت به، وكانت لاحقًا الارتكاز الأول لكتابة السيناريو وتصميم المسلسل، وهذا على حد وصفه وحديثه فى مقابلات تلفزيونية، ولإضفاء نوع من المصداقية أكثر، يشير كاتب السيناريو "ليؤر راز"، أن المسلسل تمت كتابته بالشراكة والمساعدة مع كل من "زونان بين يتسحاك"، وهو مدير المخابرات العامة فى السابق وخريج وحدة "ساييرت ماتكال"، وهى وحدة "كوماندوز" تعمل بأوامر جهاز المخابرات والاستخبارات العسكرية، و"أفيف إلعاد" وهو خريج وحدة "دوفدوفان" للمستعربين، والتى نشطت فى العام 1986 حتى 2015، بالإضافة إلى الاستعانة بخبراء تحليل مختصين فى الشأن الفلسطينى فى الجيش والصحافة، مثل "عاموس هرئيل"، وهو محلل عسكرى معروف فى الإعلام الصهيونى يكتب فى جريدة "هآرتس".
فى النهاية تكمن المشكلة الأساسية فى مسلسل "فوضى" أن يأتينا، مؤخرا، فنّانون فلسطينيّون - والذين نقدر بعضهم - متباهين بمشاركتهم فى مسلسل ذى خطاب صهيونى بامتياز، يتميز بالطابع العسكرى والمخابراتي، ضاربين عرض الحائط أى خطوط حمراء وأى ضوابط وطنيّة، مساهمين فى تمييع كلّ مفهوم لصراعاتنا المتشعّبة مع الاستعمار الإسرائيلي، حيث يتناول المسلسل حياة أفراد من وحدة المستعربين الإسرائيليّة وعملها مع المخابرات العسكريّة؛ وهى وحدة تأسّست على يد "عصابات الهاجاناة" فى ثلاثينات القرن الماضي، يتنكّر أفرادها إلى أشخاص عرب وينفّذون عمليّات تصفية وخطف وقتل مقاومين أو مدنيّين فلسطينيّين، ويصوّر العمل أفراد وحدة المستعربين أبطالًا يناضلون من أجل السلام والاستقرار الأمنيّ، وبالتالي، فإن العمل بصفة عامة يتناول قضايا حسّاسة على نحو يضرب قيمنا وثوابتنا الفلسطينيّة، ويرجّح كثيرون أن يكون العمل، أصلًا، مدعوما من الجيش والمخابرات الإسرائيليّين لتبييض وجه وحدة المستعربين وعملها، كما يطرح المسلسل قصص عائلات أفراد وحدة المستعربين، ويحاول أن يُؤنسن المستعربين أنفسهم، فيصوّرهم أناسًا عاديّين جدًّا، لهم هموم يوميّة مشابهة لنا جميعًا، وبالتالي، فإنّ علينا التعاطف معهم، فهم ضحايا صراعاتهم مع زوجاتهم وأولادهم وأوضاعهم الاقتصاديّة، ومن هنا تصبح محاولة جرّ المشاهد إلى التعاطف مع المستعربين خطيرة للغاية، فهو ينحى جانبا مسألة أنّهم قتلة وخاطفون ومسؤولون عن دمار عائلات فلسطينيّة، ويبقى الأخطر فى المسلسل إنه يُظهر المسلسل المقاومة الفلسطينيّة بصورة بشعة، فهى عبثيّة وغارقة فى دم لا سبب له.. تلك هى الكارثة !.