تمر اليوم الذكرى العاشرة لرحيل يوسف شاهين، ومنذ رحيل يوسف شاهين وكلما قررت أن أكتب عنه تبعدنى رهبة الحب للشخص، والانبهار به كإنسان، رأيت فى شخصه وعشيته فى أعماله، كظاهرة سينمائية، عذوبته كالنيل الذى لا يشرب منه المرء مرتين ومن أراد أن يبحث فى أغواره يغرق فى المصب قبل أن يدرك البحر، وكالحجر الكريم الذى كلما سقط عليه الضوء عكس ألوانا متعددة، ولكن من أراد أن يكسره ينكسر، ما لم يعرفه أحد حتى الآن أنه كان مثالا ونموذجا لـ"المثقف العضوى" الذى تحدث عنه المفكر الإيطالى اليسارى الشهير "أنطونيو جرامشى".
سمعت ذلك التوصيف من المفكر الكبير إدوارد سعيد فى حواره مع يوسف شاهين بمنزل تحية كاريوكا، حينما زار سعيد مصر، وكان يوسف شاهين مندهشا مما قاله إدوارد سعيد عنه، ولكنى ومن خلال رؤية جرامشى بحثت عن شاهين فى جرامشى فوجدته:
ـ ليس هناك انفصال بين يوسف شاهين الإنسان والمناضل والفنان، ويتجسد ذلك فيما ينتجه من أفلام، وأنه ذات مادة اجتماعية وتاريخية مأخوذتين فى علاقة جدية مع الضرورة، ويخوض بكاميراته فى كل السياسة محطما بذلك الكتلة الأيديولوجية البرجوازية، مكونا كتلة تاريخية جديدة فى إطار صراع طويل ومعقد أو ما يسميه جرامشى "حرب خنادق". وهى حرب ينبغى أن تنمّى وتطور خلالها أشكالا تنظيم ذاتى جماهيرية، ورفضا لفصل السياسى عن الاقتصادى عن الفنى وبالتالى تنفيذا لفلسفة جديدة.. حقا كان يوسف متعدد ومختلف ومترابط.
وكنت حاضرا لعدة مواقف لشاهين المرة الأولى رأيته قبل أن أرى أفلامه، ابتسامة مجلجلة كإلهة الأوليمب وأحفاد زيوس من جينات الأم اليونانية، وجبهة عريضة كجبل لبنان من الأب اللبنانى، وعيون تتسع لرؤية الحقيقة كوجوه الفيوم، هناك رأيته للمرة الأولى فى مكتب خالد محيى الدين فى مارس 1976 أثناء مشاركته فى تأسيس منبر اليسار.. وكلما اقتربت من تلك الظاهرة التى تتجسد فى إنسان شعرت بأننى أعرفه ولا أعرفه، تارة فى حوارات معه نشرت بصحيفة النداء اللبنانية أو وطنى القاهرية، وكذلك تكريمه فى صالون ابن خلدون، وكان لى شرف قراءة دراسة كتبتها عنه.
كثيرون يعرفون أن يوسف شاهين كان من عائلة طبقة وسطى وأنه تعلم فى كلية فيكتوريا بالإسكندرية، ولكن قليلين يعلمون كيف كافحت أسرته من أجل تعليمه، وكم اقترضت وباعت ممتلكات من أجل ذلك (حوار مع محسنة توفيق ويوسف شاهين).
أيضا كثيرون يجهلون علاقة يوسف شاهين بالدين، وهو مسيحى علمانى ويسارى، فهو المولود بالثغر من عائلة كاثوليكية ربته تربية دينية، وتعرف جيدا على خشونة وقسوة المعلمين الرهبان ولكنه كما قال تعلم منهم "العناد والإرادة وإدراك الجسد"، وتعددية الأجناس ما بين الأب والأم وجبل لبنان والأوليمب وعذراء زحلة، انعكست على شخصيته وجعلت أمميته جزءا من زفيره وشهيقه ورؤيته لكل أبناء المتوسط، خاصة أن عائلة الوالدة هاجرت فى القرن التاسع عشر من بطش العثمانيين، وفى نفس الوقت مرت طفولة وشباب يوسف شاهين بالمد الإخوانى بعد ظهور جماعة الإخوان المسلمين 1928، وهو يبلغ من العمر سنتين وتحالف الإخوان مع الملك وصدقى باشا 1930 وإلغاء دستور 1923، وكانت أول مظاهرة شارك فيها شاهين إبان دراسته بكلية فيكتوريا، الأمر الذى كون فى يوسف شاهين ثلاثية (الدين والوطن والدفاع عن الأقليات)، وبرز ذلك بشكل خاص جدا فى ثلاثية أفلامه الشهيرة، (وكيف كان الصليب مرتفعا والوطن فى الحشا).
وبعد إتمام دراسته وعلى الرغم من انتمائه للطبقة المتوسطة - حيث إن أسرته كافحت لتعليمه - كانت دراسته بمدارس خاصة كلية فيكتوريا، والتى حصل منها على الشهادة الثانوية. بعد إتمام دراسته فى جامعة الإسكندرية، انتقل إلى الولايات المتحدة، وأمضى سنتين فى معهد پاسادينا المسرحى (پاسادينا پلاى هاوس - Pasadena Play House ) يدرس فنون المسرح، الأمر الذى أضفى بعدا يساريا فذا وقولا ومعايشة.
بعد العودة ساعده المصور السينمائى ألفيزى أورفانيللى فى الدخول إلى صناعة السينما وإخراج فيلم "بابا أمين" (1950) وحتى مساعدة خالد يوسف فى آخر أفلامه "هى فوضى"، (2007) قدم يوسف شاهين 37 فيلما، إضافة إلى أفلام تسجيلية وهى (كلها فوضى، والقاهرة منورة بأهلها، انطلاق، سلوى، وعيد الميرون).
كما تفرد يوسف شاهين بحمل كاميراته وتصوير مشاهد خاصة مثل جنازة عبد الناصر وغيرها، وحينما كنت فى جنازته تذكرت ما كتبه الناقد كمال القاضى: "وهو عمل فردى قام به المخرج الكبير يوسف شاهين كرد فعل للصدمة، حيث حمل الكاميرا بمبادرة شخصية وخرج للشارع يرصد ويتابع تدفق الملايين رجالا ونساء وأطفالا نحو منشية البكرى مقر إقامة الرئيس آنذاك، وقد تمكن شاهين بالفعل من تصوير اللحظة التاريخية القاسية بكل ما حملته من معان لم يكن المخرج الشاب حينها ينتوى عمل فيلم تسجيلى يصبح هو الوثيقة المعتمدة للحدث، ولكنه خرج بدافع الإحساس بالكارثة، التى يعلم أنها فى ما بعد ستصبح حديث العالم، ولم يغفل مظاهر الخروج الشعبى والجماهيرى الهادر، فى مشهد مهيب اختلط فيه الحابل بالنابل، وضاعت ملامح الرسميات بكل ترتيباتها الرسمية والأمنية الدقيقة، بعد أن صعد آلاف الشباب سطوح العمارات وتسلقوا أعمدة الإنارة الكهربائية، غير عابئين بالخطر لإلقاء النظرة الأخيرة على زعيمهم فى وداعه لمثواه الأخير".
نعم تذكرت مشاهد فيلمه عن وداع عبد الناصر وأنا فى كاتدرائية القيامة للروم الكاثوليك 2008، عندما دخل خالد يوسف حاملا جثمان يوسف شاهين على كتفه، وساعده فى حمله مجموعة من محبى شاهين وأفخر أننى كنت أحدهم، حتى رقد النعش ملفوفا بعلم مصر أمام الأسقف جورج بكر، الذى اضطر أن يطلب أكثر من مرة مغادرة مصورى شبكات التليفزيون المقاعد، التى اعتلوها بأقدامهم، وكيف اختلط الحابل بالنابل، ووقف المئات من الحضور طوال الجنازة، وسدوا جميع ممرات الكنيسة الداخلية والخارجية، والشارع المؤدى من مدرسة الجزويت وحتى مدخل الكنيسة، وسط حشد غير مسبوق، لتبدأ صلاة الجنازة فى حضور أكثر من ألفى مشارك، واستمرت الجنازة ساعة ونصف الساعة وسط حزن ودموع من أبناء الشعب وحى معروف مسلمين ومسيحيين، ليخرج جثمان شاهين، وتتحول جنازته إلى ما يشبه مظاهرة فى حب مصر، وهتافات تعيشى يا مصر، وتحيا مصر والوداع يا شاهين يا حبيب الملايين، ابن مصر وعاش لمصر، ولافتات أخرى تحمل شعارات: "الوداع يا شاهين يا فنان الملايين".
خرج النعش فى فيضان من الدموع وبصعوبة كبيرة من الكنيسة، ووضعه خالد يوسف وآخرون فى سيارة لتصحبه إلى الإسكندرية ليدفن هناك، انطلقت السيارة تحمل النعش يرفرف عليه علم مصر ويرافقه جابى ومريان خورى وخالد يوسف.
شاهين المناضل اليسارى
كان يوسف شاهين من مؤسسى حزب التجمع الوطنى التقدمى الوحدوى، وبالطبع يعود ذلك إلى قد بدأ يوسف شاهين مشواره السينمائى عام 1950 بفيلمه "بابا أمين"، أى قبل عامين فقط من قيام ثورة 1952.
فى تلك الفترة جاء اهتمام شاهين بقضايا العمال والفلاحين مواكبا للاهتمام السياسى والاجتماعى الذى حظوا به منذ قيام الثورة، وفى فيلم "صراع فى الوادى" 1954 أعقاب صدور قوانين الإصلاح الزراعى قدم الفيلم سلبيات الإقطاع وظلم الفلاحين، والفوارق الطبقية الشاسعة قبل الثورة من خلال قصة أحمد الذى يعود لبلدته بعد دراسة الهندسة ويقوم بإصلاحات تؤدى لزيادة إنتاج قصب السكر، وتحقيق الرخاء الاقتصادى لقريته، لكن الباشا الإقطاعى يتآمر عليه وعلى الفلاحين ويقتل أحدهم والذى يتهم والد أحمد بقتله زورا. وسط كل هذا نتتبع علاقة حب تنشأ بين أحمد وابنه الباشا، والذى ينتهى الفيلم بقتله.
أيضا فيلم "باب الحديد" إنتاج 1958، كان أول فيلم مصرى يعالج قضية الباعة الجائلين وتأسيس النقابات لأول مرة، ركز الفيلم على المهمشين وجعلهم أبطالا على عكس الصورة الرائجة آنذاك فى السينما المصرية.
وأضافت المخرجة والناقدة مافى ماهر فى مجلة الديمقراطية فى مقال بعنوان: "الهوية فى سينما يوسف شاهين : قصة البحث عن ذات ووطن": "فى نفس العام ظهر فيلم جميلة بوحريد الذى يتناول قصة المناضلة الجزائرية، جميلة بوحريد، ومقاومتها للاستعمار الفرنسى. جاء ذلك متناغما مع سياسة مصر لمساندة حركات التحرر الوطنى فى المنطقة بأسرها، وبعد عامين من انتصار مصر على العدوان الثلاثى، وتأميم قناة السويس وازدياد شعبية جمال عبد الناصر فى العالم ،فى هذا السياق، ظهر فيلم الناصر صلاح الدين إنتاج 1963، كرس هذا الفيلم أيضا أمرًا شديد الأهمية، وهو انتماء المسيحيين العرب لأوطانهم ولأمتهم العربية ولا يمكن تناول ذلك بمعزل عن شعور شاهين كمصرى مسيحى يشعر بانتماء شديد لمصريته وعروبته، وعن هذا يقول شاهين: لم أكن مترددا فى أن أقول للمسيحيين إنهم كانوا على خطأ فى احتلالهم لأراضينا. فأنا نفسى، مسيحى أعيش فى قلب الثقافة الإسلامية حيث 90% من الشعب الذى أحبه مسلم".
وفى حوار خاص معى قال لى: "أنا أحب الناصر صلاح الدين لأن قبله كان الناس ينادونى بلقب يا خواجة وبعده حصلت على الجنسية الشعبية المصرية وصاروا ينادونى بـ يا جو"، وأضاف: "قابلنى مسيحيون كثيرون وكانوا يسألوننى عن شخصية عيسى العوام، وأذكر أننى بعد الفيلم زرت الكنائس القبطية وتحدثت عن العروبة والمسيحيين من خلال الفيلم".
نعود لدورة فى تأسيس حزب التجمع، وفى مكتب خالد محيى الدين بالدور التاسع باللجنة المركزية لحزب التجمع فى مارس 1976 شاهدت يوسف شاهين أول مرة، وعرفت أنه كان من أوائل الفنانين الذين انتموا لتنظيم منبر اليسار، ولعل ذلك سبب كثيرا من الخلاف بين شاهين بعد تأسيس الحزب فى نوفمبر 1976 وكيف تم انتخاب صلاح أبو سيف مسئول مكتب الأدباء والفنانين وكان دائما يردد: "كوسة أنا دخلت قبلة" لكنه بعد وساطة من د. رفعت السعيد ومحسنة توفيق وفتحية العسال تم التوافق بين المخرجين الكبيرين، ولعب شاهين أدوارا كبيرة فى نضال الحزب وبعد أن ضرب السادات الحزب واعتقل الآلاف من أعضائه كان شاهين يزور الحزب ويسأل عن المعتقلين، ويتبرع للحزب، وأذكر أنه أعطى الحزب كل الأدوات التى جعلت الحزب يؤسس نادى للسينما حينذاك.
ولما لا ومن المعروف أن قادة يساريين كثيرين كانوا من رفاق شاهين فى تحديد رؤيتة السينمائية مثل توفيق صالح ولطفى الخولى حتى خالد يوسف.
فى مركز ابن خلدون 1994 احتفلنا بيوسف شاهين وكرمناه، وكان يقدم الحفل الدكتور مصطفى الفقى، أول مرة أرى يوسف شاهين يخجل من المديح، حينما قال الفقى: "معنا فنان عظيم نادر المثال"، ارتبك شاهين وأخذ الميكرفون، وقال: "العظمة لله وللإنسان المصرى وللكاميرا"، سقطت دموعى وأنا أقبله كما سقطت وأنا أقبل نعشه".
وحشتنا يا فنان، ووحشتنا نبوءاتك الفنية فى بابا أمين تنبأت 1950 بما سيحدث فى يوليو 1952، وفى "هى فوضى" تنبأت فى 2007 بـ25 يناير 2011، وفى "الاختيار" 1970 أدركت ما سوف يحدث بعد موت عبد الناصر، وما زالت كاميراتك تتنبأ بالحاضر الآتى.