المجتمع مهما كان صغيرا، وكان عدد أفراده قليلا، إلا أنه لا يمكن أن تتوحد صفاتهم وميولهم وأهدافهم.
فتتعدد الصفات والثقافات بتعدد أفراد المجتمع واتساع مساحته.
وكان لا بُدّ هنا من تدخل مفهوم «التعايش».
فالتعايش لغة معناه: العيش على الألفة والمودة، و«تعايش المجتمع» يعنى أن يعيش أفراده فى وئام وتوافق على الرغم من اختلافاتهم «الدينية والثقافية»، بمعنى احترام الآخرين وحرياتهم، والاعتراف بالاختلافات بين الأفراد والقبول بها، وتقدير التنوع الثقافى.
وهنا يدرك الفرد أنه لكى يعيش فى مجتمعة فى أمن وسلام، يجب عليه أن يتنازل عن بعض رغباته أو يقيد بعض حرياته حتى يحدث التناغم والتوافق بين أفراد المجتمع، وهو ما يتطلب الصبر على ذلك، أن نصبر على ما فقدناه، وأن نصبر على غيرنا، فالتعايش مع الآخر المختلف معى فكريا وثقافيا ودينيا نوع من الابتلاء الذى يتطلب صبرا وحكمة فى التعامل معه، قال تعالى: «وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون».
ففى العمل، أنت لاتؤدى عملك وفق شروطك وتبعا لهواك، لأن وقتها ستجد زملاءك يريدون أن يتم العمل وفق شروطهم أيضا، ويحدث الصراع وقد يتوقف الإنتاج، وتتولد الأفكار العدوانية نتيجة لرغبة كل منهم فى الانفراد بالقرارات. هنا يأتى «التعايش» ليفرض نفسه كَحَلٍّ أمثل وكضابط لأهواء الأفراد داخل المجتمع، وليخضع الجميع لضوابط وقوانين العمل التى تتطلب تنازلا من كل فرد عن بعض متطلباته، لكى يبقى الاحترام فيما بينهم، ولضمانة إنجاز العمل على الوجه المطلوب.
ولكى لا يكون هناك مجال لأن يفرض أحدهم رأيه على الآخرين، فالكل يطبق قانونًا ضمن لهم العمل المشترك أو «العيش المشترك» فى إطار من التسامح والود.
قِس على ذلك جميع مجالات حياتنا:
الجيران مع بعضهم ومراعاتهم لبعضهم البعض، المواطنون فى الشوارع ووسائل المواصلات، فأغلبنا مختلفون عن بعضنا، ولكى يسود السلام فى وطننا فيجب أن نجنب خلافاتنا واختلافاتنا ونبحث عن مشترك يجمعنا فى جو من الاحترام والتقدير.
والسبيل إلى ذلك هو أن نتعارف «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ».
نتعارف ليكون كل منَّا على دراية بحقوقه وحدوده وحقوق غيره، ومعرفة ما يؤذيهم لتجنبه، ولمعرفة أننا «نكمل بعضنا»، فالحقيقة التى لا يمكن إغفالها هى أن المجتمع فى حاجة إلى تنوعنا واختلافنا.
فتخيل معى مدينة صغيرة كل سكانها أطباء ومهندسون، فهل ترى هذا مجتمعًا متكاملًا؟
فالمدينة وأهلها كما يحتاجون إلى الطبيب والمهندس، فهم يحتاجون أيضا للمعلم، والواعظ، والتاجر، وعامل النظافة.. وغيرهم.
إنّنا ملزمون دينيا وأخلاقيا واجتماعيا بالتعرُّف على الآخرين، وهذا يَحتاج إلى بذل جهد كبير، للتنازُل عن المقاييس الخاطئة، وتلمُّس مواطن الاتفاق فيما بيننا، لاستثمار هذه العلاقات فى سبيل ترقية الحياة المشتركة.
إن التعرف على الآخر، شرط رئيس لنجاح تجربة العيش المشترك، لأن هذه المعرفة تقود إلى الاعتراف بالآخر، ومن ثمّ إعطاؤه الحرية فيما يختار من معتقد، و قبوله كما هو.
فالتعارف مع الآخر والتحاور معه لا يمكن أن يثمر إلا فى مناخ من الحرية، إذ «لا إكراه فى الدين» [البقرة: 256]، «ولو شاء ربّك لآمن من فى الأرض كلهم جميعا أفأنت تُكره الناس حتى يكونوا مؤمنين» «يونس: 99».
وعندما أتكلم عن الحوار أتخطى فكرة التسامح، بمعنى القبول والاعتراف بما هو موجود.
إنّنى ارغب رغبةً أكيدة بالعيش المشترك، العيش الذى لا يؤدّى فقط إلى فهم الآخر، أو اللقاء معه فى مناسبات معيّنة أو الوقوف معه فى الأزمات فقط، بل نريده التزاما بعمل مشترك معه ينطلق من الثقة به، ووجوب التعامل معه بصفته إنسانا، لأنه مصدر غنى لحياتنا الواحدة، وهذا كله يقودنا إلى ضرورة بلورة خطة عمل مشتركة تطبق على الأرض، وهذا ما يقوم به الإمام الأكبر من خلال جولات السلام.
ويكفى أنْ نلاحظ أن بستانا من أزهار مختلفة أفضل من بستان فيه نوع واحد من الأزهار، فالانفتاح على الآخرين والتعرف على ثقافتهم وقيمهم شىء إيجابى بالمقاييس الشرعية والإنسانية.
لكن قد يقول قائل: الانفتاح الذى تزعمه هو عين الذوبان.
والانفتاح غير الذوبان كما يتخوَّف كثيرون.
إنَّ ديننا الحنيف بقدر ما يدعو إلى التميُّز والاعتزاز والثبات على ديننا ومعتقداتنا، رغم ما قد يعترى ذلك من مشقة وصعوبة، فإنه يدعو إلى الإسهام فى الحياة الإنسانية من خلال الإعمار فى الأرض، ليكون الإعمار للإنسانية كلها، وكذلك جملة من القيم المشتركة، مثل: حب الخير للناس، ومساعدتهم، واحترام الغير، وبسط سلطان العدل والمساواة والحريّة، وغير ذلك من الجمل الأخلاقية المشتركة التى تدعو إلى التعايش.
وإن المتتبع للقرآن الكريم وسنة النبى، صلى الله عليه وسلم، يجد ما ذكرناه مبثوثا فيهما.
فهنيئًا لمجتمع قدر قيمة الاختلاف وسن قوانين التعايش، وجعل الطريق ممهدا لرواده للصعود بوطنهم نحو القمة.